في كل ليلة في فصل الصيف، يخرج 1.5 مليون خفاش من أسفل جسر “كونجرس أفينيو بريدج”، في مدينة أوستن بولاية تكساس، بحثًا عن الوجبة المفضّلة من البعوض والحشرات الأخرى، وكي تتبع الخفافيش فريستها الطائرة الصغيرة، تُصدر أصواتًا مرتفعة ترتدّ منحرفة عن الحشرة إلى آذان الخفاش الكبيرة.
والمعلومات الصادرة عن هذه العملية -حيث يحدد الموقع بصدى الصوت- تُعرّف هذه الثدييات الطائرة المسار الدقيق لطعامها سريع الحركة.
لكن كيف يعرف الخفاش الواحد ضمن سرب من آلاف الخفافيش أن الصوت الذي يسجّله ليس الصدى الخاص بخفاش آخر؟
التعامل مع هذا التداخل المحتمل، المعروف باسم تشوّش السونار، ليس مشكلة الخفافيش فقط على أي حال، فالدلافين والحيوانات الأخرى التي تعتمد على تحديد الموقع بالصدى، يتحتّم عليها أيضًا إيجاد طرق للتحايل على متاهة الموجات الصوتية التي ترتد حولها.
يرغب البشر في معرفة كيف تقوم الخفافيش والدلافين بذلك، لأن هذه الحيوانات تجسد ما تسميه لورا كلوبر، الأستاذ المساعد في علم الأحياء بكلية سانت ماري في ولاية إنديانا، “الإلهام الحيوي”، الذي يساعدنا على التوصل إلى حلول تكنولوجية للمشكلات التي تواجهنا في حياتنا اليومية”.
إن التكوين البيولوجي داخل الخفافيش التي تحدّد المواقع بصدى الصوت ينطوي على أسرار من شأنها أن تساعد الباحثين على تطوير أجهزة “استشعار نشط” أفضل، تحاكي ما تقوم به الخفافيش.
في الأصل، استخدم البشر الاستشعار النشط للدفاع عن المياه الساحلية عن طريق الغواصات، أو لسبر أعماق المحيطات، لكننا الآن -كما تقول كلوبر- نلجأ إليه بصورة متزايدة، لتلبية احتياجات أكثر شيوعًا، مثل التنظيف بالمكانس الآلية، أو استخدام السيارات ذاتية القيادة، وتكمن المشكلة الأساسية في أن “الخفافيش والدلافين لا تزال سرًا غامضًا بالنسبة إلينا”، حسب كلوبر.
وكلّما تمكَّن الباحثون من التوصل إلى كيفية تحديدها المواقع عن طريق الأصداء، حصدنا المزيد من التقدم التكنولوجي، من بين هذه التطورات المحتملة توفير أجهزة استشعار يمكن أن تميّز الأصداء المهمة عن تلك المتداخلة.
أوضحت كلوبر قوة إمكانات الاستشعار النشط لدى الخفافيش في عرضها التقديمي أمام “الجمعية الصوتية الأمريكية” في اجتماعها رقم 176، إذ عقدت مقارنة بين إمكانات الخفافيش وإمكانات الدلافين الهائلة في تحديد المواقع بصدى الصوت، وكباحثة متخصصة في الخفافيش، وصفت كلوبر نفسها بأنها تقف قطعًا ضمن صفوف الفريق الداعم للخفافيش في منافستها مع الدلافين، رغم أنها اعتمدت على الدلافين لتوضيح فكرتها، وذكرت أن دراستها أوَّل دراسة من نوعها تتناول كيفية تفادي الدلافين تشوش السونار.
في عرضها، بيَّنت كلوبر كيف أمطر فريقها البحثي زوجًا من الدلافين بوابل من نقرات اصطناعية تشبه صيحات الدلافين في محاولة لإرباكها، بينما تختار من ضمن خيارين، واختبر فريقها الثدييات البحرية بحيل جذب، مثل تعديل زاوية السماعات التي تنبعث منها الأصوات لإرباكها كلّما حددت خياريها. ما تعلَّمه الباحثون من التجربة أن الدلافين تستخدم استراتيجيتين محتملتين لحجب الضوضاء غير المهمة، فهي إما تغيِّر تردد صيحاتها إلى درجات أعلى أو أقل، وإما تغيّر التوقيت، وكلا التعديلين يمنحان كل دولفين صيحة خاصة به، تمثّل علامة مميزة يستطيع أن يتعرف عليها في صدى الصوت.
وبطبيعة الحال، درست كلوبر أيضا الخفافيش، وفي هذا البحث استخدمت ما تسميه “طائرة دون طيار بيولوجية”، وهو صقر هاريس مُدرَّب يدعى “بيلي”، زُوِّد الصقر بكاميرا وميكروفون صغيرين لينطلق وسط أسراب الخفافيش ويسجّل صيحاتها المتعددة من أجل البحث العلمي.
وتقول كلوبر إن سبب استخدامها الصقور، إضافة إلى أن “الصقور رائعة للغاية” فإن إرسال طائرة دون طيار عادية بمراوح دوران وسط أسراب خفافيش كثيفة “ليس الخيار الأفضل”، ويستخدم فريقها الطائرات دون طيار مع الأسراب التي تنطلق ليلًا، عندما تحافظ الخفافيش في طيرانها على مسافات أكبر بينها، وتكون أقل عرضة للاصطدام بالطائرة.
تستغرق نقرة الدولفين نحو 1/20 من زمن صيحة الخفاش، هذا الفارق، كما تقول كلوبر، يجعل الخفافيش قادرة بشكل أفضل على إجراء تعديلات دقيقة ومعقدة في صيحاتها، وبينما قد تستطيع الدلافين تغيير وتيرة الصوت أو درجته، تمتلك الخفافيش ذخيرة من الحيل أكثر تعقيدًا بقليل للتعامل مع التشويش. تقول كلوبر: “تصدر الدلافين إشارات مندفعة تبدو كأنها نقرات، كما لو كنتَ تطقطق إصبعيك معًا”، في حين أن أصوات الخفافيش تشبه أكثر صافرة الإنسان.
وتنوه كلوبر بأنه: “بالتأكيد تستطيع تغيير بعض سمات طقطقة أصابعك بدرجة طفيفة، لكن يمكنك جعل صوت صافرتك يرتفع أو يهبط، أو يمكنك حتى التنقل بين درجات الصوت المختلفة، والتحكم كذلك في مدة استمرارها”.
وتُبدي الخفافيش مستوى مشابهًا من التحكم الدقيق في تحديد الموقع بالصدى، حسبما تزعم.
ينتج عن ذلك أن الخفافيش لا تصبح قادرة على الكشف عن الفرائس المتحركة وتتبعها فقط، وإنما أيضًا على الإحساس بقوام الأجسام المختلفة، كما تقول إيرين جيلام، الأستاذ المشارك في العلوم البيولوجية بجامعة ولاية نورث داكوتا، والتي لم تشارك في الدراسة عن الدلافين.
وتنحاز جيلام أيضًا إلى الفريق الداعم للخفافيش، لأن هذه الحيوانات هي “أروع المخلوقات”، وتضيف: “الدلافين قادرة على إبداء بعض المرونة، لكن ليس بالقدر الذي تستطيعه الخفافيش”.
وبغضِّ النظر عن التحيز الظاهر من جانب الفريق الداعم للخفافيش، تقول كلوبر: “النتائج التي توصلت إليها لا تثبت حقًّا تفوق الخفافيش، فالأمر ببساطة أن الخفافيش صيحاتها أطول كثيرًا، وتُعرف بقدرتها على تحديد المواقع بالصدى وسط مجموعات ضخمة، ما يجعلني أؤكد أنه عندما يتعلق الأمر بتجنب التشويش، فإن الخفافيش تفوز”.
لكن، يبقى لغز كيف تتمكن الخفافيش من تجنب التشويش، والخطوة التالية للباحثين في مواجهة هذا التحدي هي التركيز على أفراد من الخفافيش وصيحاتها. وتتوقع كلوبر “تركيب أجهزة إلكترونية جديدة على الطائرة دون طيار والصقر اللذين نستخدمهما سيسمح لنا بتحديد أي خفاش يصدر أي صوت عندما يكون في وسط هذه المجموعة الضخمة”.
لن تُهمل الدلافين أيضًا، فكلوبر تُخطط لتوسيع نطاق دراستها عبر تحدي الثدييات البحرية الثرثارة بمزيد من التشويش، كي تكتشف هل ستظل قادرة على تحديد المواقع بصدى الصوت أم لا.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.