ساعد على تنظيم درجة حرارتها وتحسين ديناميكية طيرانها.. وأكسبها قدرةً على استشعار فرائسها عن طريق اللمس.
بخُطًى مُثْقَلةٍ بالهموم، ترك “كوزيمو أليساندرو كوليني” عمله كسكرتير خاص لفيلسوف عصر التنوير الفرنسي الأشهر “فولتير”، ليعمل بـ”متحف التاريخ الطبيعي” الذي تم تأسيسه في مدينة “مانهايم” الألمانية قبل 263 عامًا.
ولد “كوليني” في عائلة إيطالية نبيلة، وتحقق حلمه بالعمل مع معلمه الأكبر “فولتير” لمدة أربع سنوات كاملة، خاض خلالها عددًا من المعارك الثقافية والفلسفية المهمة، قبل أن يجذبه شغفه بعلم “التاريخ الطبيعي” بعيدًا عن هذا الحلم.
وبعد عامٍ واحدٍ من عمله في المتحف، وتحديدًا في عام 1784، كان “كوليني” على موعد مع اكتشاف حفرية لكائنٍ عاش قبل ملايين السنين.
لم يستطع “كوليني” توصيف الحفرية بدقة، واكتفى بوصفها بأنها تعود إلى كائن بحري غير معروف يستخدم ذراعيه الطويلتين في السباحة، كما احتفظ بالحفرية في المتحف وأعاد ترتيب أجزائها، ورسم قطعها المفقودة اعتمادًا على صفاتها التشريحية.
وبعد عدة أعوام، جاء العالِم الألماني “يوهان جورج والجر” ليؤكد أن الحفرية تنتمي إلى جنس فقاري عاش على البرية في أزمان سحيقة، أطلق عليه “التيراصور”، لينتهي العلماء بعد سنين قليلة إلى أن ذلك الكائن كان أول الكائنات الفقارية التي تمتلك القدرة على الطيران.
ومن يومها إلى الآن، حاول العلماء فهم بيولوجيا ما وراء طيران “التيروصورات”، ليكتشفوا أن تلك الكائنات استخدمت أجنحةً من الجلد، تبرز من أصابعها وتمتد حتى أقدامها، لكي تستطيع الطيران بسهولة في سماء اكتظت أرضها بكائنات أكبر وأشرس، وفي عصور سادت فيها الديناصورات قبل أن تَبِيد، موضحين أن “هذه الأجنحة تُشبه تلك الموجودة في الخفافيش في عصرنا الحديث”.
4 أنواع من الريش
لكن دراسة جديدة، نشرتها دورية “نيتشر إيكولوجي آند إيفوليوشن” (Nature Ecology & Evolution) ، ذكرت أن تلك الكائنات تمتعت بجانب أجنحتها الجلدية بـ”زغب” خفيف، يُشبه الريش الموجود في الطيور الحديثة، وهو الزغب الذي ساعدها على تحسين ديناميكية طيرانها، وعمِل على تنظيم درجات حرارة أجسادها، وأكسبها القدرة على استشعار فرائسها عن طريق اللمس.
تقول الدراسة إن أحد أنواع “التيراصورات” المسماة بـ”الأنوروجنثيد تيراصور” (Anurognathidae Pterosaurs)، غطى جسده 4 أنواع على الأقل من الريش، تتضمن شعيرات بسيطة (شعر)، وحزم من الشعيرات، وشعيرات مع خصل وريش بالأسفل، ما يُعد اكتشافًا كبيرًا يلقي بالضوء على حقائق جديدة ويكشف لنا في المستقبل عن أصل الريش الذي يغطي معظم طيورنا الحديثة، على حد وصف “بلال سالم” -عضو مركز جامعة المنصورة لأبحاث الفقاريات، والباحث غير المشارك في الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”.
اعتقد العلماء في السابق أن “التيروصورات” –وهي نوع من أنواع الزواحف الطائرة وتختلف كُليًّا عن الديناصورات- يُغطي جسدها نوع من أنواع الفراء، إلا أن الدراسة الحديثة تقول إن ذلك الاعتقاد ربما يكون خطأً، فبعد أن درس العلماء حفريتين تم استخراجهما من شمال الصين في سبعينيات القرن الماضي، وجدوا دلالةً على وجود الزغب الخفيف في جميع أنحاء جسم “التيروصور”.
كانت الحفرية لكائن صغير الحجم مثل العصفور، ووزنه لا يتجاوز الـ50 جرامًا، أما طوله فيبلغ 16 سنتيمترًا، وعاش قبل 165 مليون سنة، كان العلماء يعرفون أن هذا الكائن كان ينشط ليلًا، وفق ما تشير إليه فتحات عينيه الكبيرتين بما يوحي باتساعهما لاستقطاب أكبر قدر ممكن من الضوء في ظلام الليل، وكانوا يعلمون أيضًا أن الحشرات غذاؤه الرئيسي، لكنها كانت المرة الأولى التي يعلمون فيها أن جسده كان مُغطًّى بريشٍ بدائي.
وصنف العلماء ذلك الزغب إلى أربعة أنواع: النوع الأول يشبه الفراء ويوجد حول الرأس والرقبة والكتف والجذع والأطراف الأربعة والذيل في كل العينات، ويتميز بعدم وجود أي تفريعات، ويبلغ طوله من 3.5 إلى 12.8 ملليمترًا، أما عرضه فنحو 70 إلى 430 ميكرومترًا.
والنوع الثاني يُشبه الفُرشاة، ويتركز في منطقة الرقبة والأطراف فقط، ويبلغ طوله من 2 إلى 13.8 ملليمترًا وعرضه 80 إلى 180 ميكرومترًا، أما النوع الثالث فموجود حول فم التيراصور، ويتراوح طوله بين 4.5 ملليمترات إلى 70 ملليمترًا، ويعتقد العلماء أن ذلك الكائن كان يستخدم ذلك النوع كحساسات تُساعده على التقاط الفرائس من الحشرات.
وتقول الدراسة إن هناك نوعًا رابعًا من الزغب يتركز في منطقة الأجنحة الجلدية، ويبلغ طوله ما بين 2.5 إلى 8 ملليمترات، ويعتقدون أن ذلك النوع ساهم في تحسين الصفات الديناميكية للتيروصورات.
نتائج ثورية
استخدم العلماء نوعين من الاختبارات لدراسة حفريتين، ففي البدء، سلط الباحثون الأشعة السينية على العينة، ثم قاموا باستقبالها على حساس يعكس ما بداخلها ويكبِّرها لرؤية التكوين الدقيق لها، ثم أجروا مسحًا بالأشعة تحت الحمراء لتصوير الأنسجة المرنة، وهو ما سمح لهم ليس بالتعرُّف على أنواع الريش البدائي الأربعة فحسب، بل أيضًا على لونه.
يرى “سالم” أن “تلك التقنيات سمحت للعلماء برؤية “الميلانوسومات” –وهي الجزيئات المسؤولة عن إكساب الشعر لونه- ليجدوا أن الريش الذي كسا جلود تلك الحيوانات في الماضي كان لونه بنيًّا، يُشبه لون ثمرة الزنجبيل.
من جهته، يقول “مايكل بينتون” -أستاذ علوم الحفريات الفقارية بجامعة بريستون، والمؤلف الرئيسي لتلك الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: “إن الريش نشأ في وقت أبكر بكثير مما كان يُعتقد سابقًا، ووفق ما تقترحه ورقتنا العلمية، فإن النسخة البدائية للريش ظهرت قبل 250 مليون سنة، وليس قبل 170 مليون سنة كما كان يُعتقد سابقًا”.
ويصف “بينتون” الدراسة التي بدأت قبل ثلاثة أعوام بأنها “ثورية في مجال التطور؛ إذ تكشف أن الزواحف الطائرة، التي عاشت جنبًا إلى جنب مع الديناصورات، تعافت من آثار الانقراض الجماعي الذي حدث قبل 251 مليون وقضى على أكثر من 90% من الكائنات الحية بشكل سريع، وطورت زغبًا يُكسبها خصائص فريدة، منها التحكُّم في درجة حرارتها وانسيابيتها في أثناء عملية الطيران”.
بدوره، يقول “بايو جيانج” -أستاذ علوم الحفريات بكلية العلوم وهندسة الأرض بجامعة “نانجينج” الصينية، والباحث المشارك في الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: “استنادًا إلى نتائج الدراسة، لم تكن التيروصورات المخلوقات القديمة الوحيدة التي تملك ذلك النوع من الريش، فهناك مجموعتان كبيرتان من الديناصورات، هما الديناصورات آكلة النباتات والديناصورات آكلة اللحوم، لهاتين المجموعتين ريش بدائي يُشبه ريش التيروصورات، وبالنظر إلى نتائج تلك الورقة العلمية، ربما يرغب علماء الأحافير في فحص الرابط بين التيروصورات والديناصورات”.
ويشدد “جيانج” على أن “تلك النتائج تستدعي إجراء مراجعة شاملة لهياكل الديناصورات المعقدة، وحفريات التيروصورات؛ إذ تشير بوضوح إلى وجود أصل مشترك للديناصورات والتيروصورات ربما يكون قد عاش قبل انقراض العصر البرمي الثلاثي، الذي حدث قبل أكثر من ربع مليار عام، وتشمل الخطوة التالية فحص مجموعات أخرى من حفريات “التيروصورات” لمعرفة إذا ما كان لديها أنواع الريش البدائي الأربعة نفسها، كما سيحاول الباحثون في المستقبل تحديد وظيفة ذلك الريش على وجه الدقة”، مضيفًا أن “نتائج تلك الورقة تفتح الباب على مصراعيه لدراسة أصول الريش، وهو باب لن يُغلق بسهولة”.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.