نُشرت مؤخرًا في مجلة Nature Human Behaviour مراجعة نقدية لمجموعة بيانات أثرية وسجلية قديمة تعود إلى العصر البلايستوسيني الأوسط والمتأخر -منذ 12 إلى 300 ألف سنة- عن كيفية انتشار أشباه البشر داخل وخارج إفريقيا، توضّح كيف استطاع الإنسان العاقل التكيّف مع البيئة المحيطة والتعايش مع أقرانه من البشر مثل إنسان النياندرتال، والإنسان المنتصب.
أعدّ البحث علماء من معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري، وجامعة ميتشجان، بغرض الاستقصاء عمَّا يميز الإنسان العاقل عن أسلافه وأقرانه المعاصرين، فعلى النقيض منهم، لم يقم الإنسان العاقل فقط باستعمار بيئات ذات ظروف صعبة مثل الصحاري والغابات المطيرة، بل أيضًا استطاع التكيّف مع تلك الظروف.
الظروف البيئية القديمة: بيئة العصر البلايستوسيني الأوسط والمتأخر
يُطلق لفظ الإنسانيات بين الأوساط الأكاديمية والعامة علي مجموعة أشباه البشر التي تشكّل جنس (الهومو – homo)، وبالرغم من ذلك، فإن هذه المجموعة التطوّرية التي ظهرت في بادئ الأمر في إفريقيا منذ ما يقرب من 3 ملايين سنة شديدة التنوع.
بعض من أفراد هذه المجموعة هو ما يُعرف بالإنسان المنتصب الذي وصل إلى إسبانيا، جورجيا، الصين، وإندونيسيا قبل مليون سنة.
تشير المعلومات المأخوذة من الأحافير الحيوانية والنباتات القديمة والطرق الكيميائية إلى أن هذه الجماعة تتبّعت مناطق الغابات والمراعي.
هناك اعتقاد شائع أن الإنسان المنتصب وإنسان فلورسينسس (الهوبيت) قد استخدموا موارد الغابات الاستوائية المطيرة في جنوب شرق آسيا قبل مليون سنة إلى 100 ألف و50 ألف سنة على التوالي، لكن لم يُعثر على أدلة لذلك.
من المعروف أيضًا أن أقرب أقاربنا، إنسان النياندرتال، استوطن أعالي أوراسيا بين 250 ألف سنة إلى 40 ألف سنة مضت.
تميّزت هذه الجماعة بشكل وجه مختلف عن أقاربهم للتكيّف مع درجات الحرارة الباردة، ومهارات صيد الحيوانات الكبيرة مثل الماموث، ومع ذلك، مع مراجعة الأدلة، استنتج العلماء أن إنسان النياندرتال اعتمد في المقام الأول على موارد الغابات والمراعي وصيد الحيوانات من أعالي أوراسيا حتى البحر الأبيض المتوسط.
الصحارى، الغابات المطيرة، الجبال، والقطب الشمالي
على النقيض من هؤلاء، فإن جنسنا (الإنسان العاقل)، انتشر في بيئات أكثر من أسلافه وأقاربه المعاصرين قبل 80 إلى 50 ألف سنة مضت، ومنذ ما يقارب 45 ألف سنة مضت كان يستعمر عدة نطاقات من الغابات الاستوائية المطيرة في آسيا وميلانيزيا والأمريكتين بسرعة.
بالإضافة إلى ذلك، يعتقد العلماء أن المعلومات البيئية عالية الدقة التي توضّح عبور جنسنا صحاري شمال إفريقيا، الجزيرة العربية، شمال غرب الهند، والمرتفعات العالية في جبال التبت والأنديز سوف تساعد بشكل كبير في فهم القدرات الاستعمارية لنوعنا.
لكن العثور على أدلة لذلك -القدرة على استعمار عدد من البيئات المختلفة- لا زال صعبًا في إفريقيا حاليًا، خاصًة في العودة إلى أصول تطور الإنسان العاقل منذ 300 إلى 200 ألف سنة مضت.
ومع ذلك، يعتقد العلماء بأن ذلك العمل سيصبح أكثر وضوحًا في المستقبل، خصوصًا عند دمج الأدلة الأثرية مع البيانات البيئية القديمة.
يقول دكتور باتريك روبرتس، القائم على هذه الدراسة: «بالرغم من أن التركيز على إيجاد أحافير جديدة ووصف جيني لأسلافنا قد ساعدنا في فهم مواصفات أشباه البشر ومعرفة الأزمنة، فإنه لم يقدّم الكثير حول كيفية الانتقاء البيولوجي».
الأخصائي العام.. صفة ملائمة جدًا
واحد من الادعاءات الجديدة الرئيسية للعلماء هو أن الدليل على استعمار الإنسان العاقل لعدد كبير من البيئات المختلفة في غالبية قارات العالم في العصر البلايستوسيني يلمح إلى بيئة ملائمة جديدة، وهذا ما يُعرف بالأخصائي العام (generalist specialist).
يوضّح روبرتس المعني قائلًا: «هم متخصّصون لأن لديهم نظامًا غذائيًا محدّدًا وتحمّلًا للبيئة، وعموميون لاستطاعتهم الاستفادة من مجموعة متنوعة من الموارد المختلفة والتكيّف مع ظروف بيئية متنوعة».
ومع ذلك، توجد أدلة على مشاركة الإنسان العاقل بعض صفات أقاربه، مثل صيد الماموث واستخدام مؤن الغابات المطيرة.
هذه القدرة الإيكولوجية (البيئية) ربما كانت منتشرة على نطاق واسع بين الأفراد غير الأقارب في الإنسان العاقل.
ويوضّح دكتور براين ستيوارت المشارك في هذه الدراسة: «ساعدت مشاركة الأغذية بين غير الأقارب، والتبادل لمسافات طويلة، والطقوس المشتركة في السماح للسكان بالتكيّف مع التقلبات المناخية، والتفوّق على الأنواع الأخرى من البشر لتحلّ محلّها».
خلاصة القول أن تراكم مجموعة كبيرة من المعرفة وتمريرها من جيل لآخر كان أمرًا حاسمًا في خلق صفة الأخصائي العام خلال العصر البلايستوسيني.
نتائج سعينا للإنسانية القديمة
لا يزال العلماء غير واثقين تمامًا من هذه الأدلة، وربما وُجدت هذه الصفة من قِبل أعضاء آخرين من جنس الهومو، ومع ذلك فإن هذه الصفة -الأخصائي العام- في جنسنا تشجع العلماء على البحث في بيئات أكثر تطرّفًا لم يتم البحث فيها من قبل مثل صحراء جوبي وغابات الأمازون الاستوائية.
لذلك إذا أردنا تتبّع القدرات الإيكولوجية للإنسان القديم، فيجب التوسّع في هذه الأبحاث، خاصةً في إفريقيا، مقرّ تطوّر الإنسان العاقل، حيث توجد السجلات الأثرية التي يعود تاريخها منذ 300 إلى 200 ألف سنة مضت.
يفتح اختبار هذه الفرضية طرقًا جديدة للبحث، وإذا كانت صحيحة، فإن وجهات نظر جديدة ستظهر حول مفهوم الأخصائي العام، وعن كيفية تكيّف الإنسان القديم مع البيئة.
هامش
عصر البلايستوسين: العصر الحديث الأقرب، خامس عصور حقب الحياة الحديثة.
اقرأ أيضًا: لماذا تمكننا من البقاء على قيد الحياة في حين انقرض كل أقربائنا؟
المصدر: sciencedaily