تعكس لون بشرة الإنسان عملية موازنة تطورية على مدى عشرات الآلاف من السنين، وهناك تفسير مقنع لسبب تباين لون البشرة بهذه التدرجات الكثيرة على مستوى العالم، فغالبًا ما تتواجد أكثر البشرات الداكنة عند السكان قرب خط الاستواء والبشرات الأفتح في المناطق القريبة من القطبين. ببساطة، تمتلك البشرة السوداء أفضلية في المناطق المشمسة، بينما تتواجد البشرة البيضاء في المناطق التي تكون فيها أشعة الشمس أقل.
قد يبدو ذلك واضحًا بالنظر إلى معاناة الناس ذوي البشرة الفاتحة عندما يذهبون إلى الشاطئ. لكن في الواقع، ربما لا يتعلق التدرج اللوني للبشر بشكل كبير بالحروق الشمسية أو حتى بسرطان الجلد. بدلاً من ذلك، تتشكل البشرة من خلال الحاجة لاثنين من الفيتامينات الأساسية: الفولات (فيتامين B9) وفيتامين (D). تتفكك الفولات بواسطة أشعة الشمس فوق البنفسجية، في حين أن الجلد يبدأ بإنتاج فيتامين (D) عند تعرضه لهذه الأشعة.
بالنتيجة ولكي يحدث التوازن: يجب الحفاظ على حمض الفوليك من التفكك، وإنتاج كميات مناسبة من فيتامين (D)؛ لذلك يحتاج البشر إلى جرعة متوسطة بسيطة من أشعة الشمس لتؤمن بذلك العمليتين كلتيهما.
على الرغم من أن كثافة الأشعة فوق البنفسجية تعتمد على الجغرافيا، إلا أن كمية الأشعة التي تخترق بشرتك فعليًا تعتمد على لون بشرة الإنسان أو كميات الصباغ لديه.
حماية الجلد المكشوف
منذ ملايين السنين، لم تكن بشرة أجدادنا واضحةً، هذا لأنه من شبه المؤكد أن البشر الأوائل كان جسدهم مُغطى بفراء داكن. ولكن ربما كان لون بشرة الإنسان القديم فاتحًا تحت هذا الشعر، وذلك بناءً على حقيقة أن أبناء عمومة البشر من الناحية التطورية -الشمبانزي والغوريلا- بشرتهم اليوم فاتحة تحت فرائهم الغامق.
فقد أسلافنا في نهاية المطاف هذا الفراء واكتسبوا أصباغًا في بشرتهم، على الرغم من أن توقيت وأسباب ذلك ما زالت موضع جدل، ويتفق معظم الباحثون على كون خسارتنا لفراءنا ساعدتنا كثيرًا على بقاء درجة حرارة جسمنا معتدلة في الوقت الذي كنا فيه نتطور لنصبح ثنائيي الأقدام (البشر الذين يمشون على قدمين) في المناطق الواسعة والمشمسة في أفريقيا الاستوائية.
كانت الصفقة عبارة عن تعرض الجلد المكشوف لأشعة فوق بنفسجية مكثفة على مدار العام، وبالتالي -منذ حوالي مليون إلى مليوني عام- كان يعتقد أن لون البشرة الداكن أفضل في حماية مخازن الفولات.
لماذا يعد حمض الفوليك مهم جدًا؟
تلعب المغذيات دورًا في نشاط الحمض النووي (DNA)، لكن يكمن تأثيرها الأساسي في اللياقة التطورية -وهي قدرة الفرد على البقاء والتكاثر- عبر مرحلة التطور الجنيني.
فعندما لا يكون لدى النساء الحوامل ما يكفي من الفولات، يمكن أن يؤدي ذلك إلى حدوث اضطرابات في الأنبوب العصبي مثل السنسنة المشقوقة، وهي حالة لا تندمج فيها الفقرات بالكامل حول الحبل الشوكي، ومعظم اضطرابات الأنبوب العصبي تكون وخيمةً أو مميتةً.
أظهرت التجارب أن أشعة الشمس تفكك الفولات لجزيء مفرد في بلازما الدم وخزعات الجلد المفحوصة، ويُعتقد أن لون بشرة الإنسان الداكنة تعرقل ذلك التفكك لأنها تحتوي على كميات أكبر من الميلانين، وهي صبغة بنية داكنة تمتص الأشعة فوق البنفسجية وتثبط مستقلباتها الضارة كيميائيًا.
خروج الإنسان من المناطق الاستوائية
لم يبقَ العرق البشري منحصرًا في أفريقيا الاستوائية. إذ هاجر الناس في أوقات مختلفة نحو الشمال والجنوب، بعيدًا عن خط الاستواء حيث تقل أشعة الشمس.
عند ذلك أصبح فيتامين (D) مشكلة، فهو يعد مثل الفولات المهم للياقة التطورية، فهو يسهل امتصاص الكالسيوم كما أنه ضروري لصحة العظام والمناعة. يمكن تركيب فيتامين (D) في الجلد، ولكن هذه العملية تحدث فقط عند أطوال موجية معينة للأشعة فوق البنفسجية.
في الأماكن البعيدة عن المناطق الاستوائية، لا توجد في معظم أوقات السنة كميات كافية من الأشعة فوق البنفسجية ذات طول موجي مناسب لتساعد خلايا الجلد على تركيب فيتامين (D).
وقد أظهرت إحدى الدراسات في الثمانينيات من القرن الماضي ذلك باستخدام القلفات التي استُؤصِلت من الأطفال القوقازيين المختونين في مدينة بوسطن، وقسم الباحثون كل عينة إلى نصفين وعرَّضوا جزءًا من العينات لمدة ثلاث ساعات للشمس في منتصف النهار، بينما أبقوا الجزء الآخر في مكان مظلم.
في فصل الربيع وحتى شهور الخريف، كان الجلد المعرض للشمس ما يزال ينتج طلائع فيتامين (D) -المادة التي يتشكل منها فيتامين (D)- كما يحدث في جسم الإنسان الحي. ولكن لم تتركب كميات قابلة للقياس من طلائع فيتامين (D) خلال فصل الشتاء حتى 17 مارس.
لذلك، للحصول على ما يكفي من فيتامين (D) على مدار العام في الأماكن البعيدة عن خط الاستواء مثل بوسطن، يتوجب على الناس الاعتماد على مخازن الجسم التي بنيت خلال أشهر الصيف أو الحصول على المغذيات الحاوية على هذا الفيتامين، مثل الأسماك الدهنية. ولكن كلما كان لون بشرة الإنسان أغمق، كلما زادت صعوبة الحفاظ على كمية كافية من فيتامين (D).
في الدراسات التي تقارن بين السكان ذوي البشرة الداكنة والفاتحة في المدن الشمالية، كان لدى الأشخاص ذوي البشرة الأفتح مستويات أعلى من فيتامين (D) على مدار العام. إذ سمحت بشرتهم الحاوية على صبغة أقل بدخول المزيد من الأشعة.
الاختلافات من لون بشرة الإنسان الفاتحة إلى الداكنة إلى التدرجات المتنوعة
مع انتشار البشر في جميع أنحاء العالم، تطورت هذه التنوعات في ألوان بشرتنا في أوقات مختلفة وبين مجموعات مختلفة، وبالإضافة إلى هذه التغيرات البيولوجية والوراثية، طورت هذه المجموعات أيضًا تكيفات حضارية وثقافية للتعامل مع التغيرات في أشعة الشمس.
على سبيل المثال، يمكننا أن نستهلك الأغذية الغنية بالفولات وفيتامين (D). كما يمكننا أيضًا الاحتماء بالبيوت وارتداء ملابس واقية من أشعة الشمس لمنع الأشعة فوق البنفسجية من الوصول إلينا.
يعد لون البشرة أحد أكثر الاختلافات الظاهرية وضوحًا بين البشر، لكن القصة التطورية وراء هذه الاختلافات مشتركة؛ فعلى مدار تطور البشر، تطورت البشرة من اللون الفاتح إلى الداكن إلى التدرجات المختلفة، وذلك بتشارك عدة عوامل جغرافية وجينية وثقافية.
اقرأ أيضًا:
دور النظام الغذائي في تطورنا قبل 2 مليون سنة
المصدر: discovermagazine