ما هو التطوّر وما هي أنواعه؟

التّطور هو تغييرٌ يصيبُ الصّفات الموروثة لأفرادِ الجماعة عبرَ الأجيال المتعاقبة:

يصفُ التّطور التّغيُّرات في الصّفات الموروثة لأفراد الجماعة عبر الأجيال المتعاقبة. وفي البداية، يجب علينا أن نكون قادرين على استيعاب المفاهيم التّطوّريّة، حتّى نفهم علم البيئةِ بشكلٍ كامل.

كتب عالم الوراثة الشّهير، ثيودوسيوس دوبزانسكي – Theodosius Dobzhansky

: “لا شيء يبدو منطقيًّا في علم الأحياء، إلاّ في ضوء التطور”.

ومجال علم البيئة لا يُستَثنى من هذا المبدأ المُستَخدم على نطاقٍ واسع. دراسة علم البيئة من دون فهم النّظريّة التّطوّريّة، شبيه بمشاهدةِ حدثٍ رياضيٍّ من دون تعلُّم قواعد اللّعبة أوّلًا: تحرّكات اللّاعبين وطريقة تسجيل النّقاط والصّافرات المدويّة، وتاليًا، تبقى المبادئ التّوجيهيّة الكامنة وراء هذا الحدث الرياضي لغزًا. ولكن، عند فهم هذه القواعد، فإنّ أصغر تعقيدات هذه اللّعبة ستكون محطّ إعجابٍ وتقدير، حتّى إنّك قد تقع في حبّ هذه اللّعبة. والأمر كذلك مع علم البيئة، إذ إنّ التّطوّر يزوّدنا بالدّليل الإرشاديّ، أو بالمفاهيم الّتي يمكن أن تمنحنا فهمًا أفضلَ ورؤيةً أشملَ للتّفاعلات الحاصلة بين الكائنات الحيّة وبيئاتها. وفي مقامنا هذا، نُعرِّف التّطوّر كما فهمناه من خلال علم الأحياء الحديث (Modern Biology)، وكما هو مُطبَّق في علم البيئة (Ecology).

ويُعرَّف التطور بأنّه التّغيّر الحاصل في الصّفات الموروثة لمجموعة من الكائنات الحية عبر الأجيال المتعاقبة. فعندما تتكاثر الكائنات الحيّة، تنقل إلى سلالاتها أو ذرّيّاتها مجموعةً من الصّفات. إذ قد تكون هذه الصفات واضحةً ومحسوسة، كأنماط الأجنحة عند الفراشات وعدد الحراشف عند التّماسيح، ولكنّها تشمل أيضًا سِماتٍ مجهولةً نسبيًّا، كتسلسل قواعد النّكليوتيدات (Nucleotide) الّتي تُؤلّف الحمض النّوويّ للكائن. في الواقع، عندما نتحدّث عن الميراث التّطوّريّ، فهو ما نشير إليه فعلًا بانتقال التّسلسل الجينيّ (Genetic sequence) من جيلٍ إلى الّذي يليه. فعندما يتغيّر تسلسلٌ جينيٌّ معيّن في الجماعة -عن طريق طفرةٍ ما مثلًا- وتُوَرَّث هذه التّغيُّرات إلى الأجيال المتعاقبة (على المستوى الجينيّ طبعًا)، فإنّ هذا يُعتبر جزءًا من العمليّة التّطوّريّة.

ما الّذي لا يعتبر تطوّرًا؟

عادةً ما يُساء استخدام مصطلح التّطوّر، سواءٌ أكان ذلك -في كثير من الأحيان- عَرَضيًّا، أم مقصودًا -أحيانًا- لغرضٍ ما. لذلك، وجب علينا أن نوضّح ما الّذي لا يعتبر تطوّرًا.
من أهمّ الأمور الّتي وجبت علينا معرفتها بأنّ التّطوّر لا يسير نحو هدفٍ محدّد نهائيّ أو حتى تقريبيّ (Gould 1989). التّطور ليس ذاهبًا نحو وِجهةٍ ما، إنّما يصف التّغيّرات الحاصلة في الصّفات الموروثة عبر الزّمان. أحيانًا، وربّما بشكل حتميّ، يؤدّي هذا التّغيير إلى زيادةِ التّعقيد الحيويّ، ولكنّ تفسير ذلك على أنّه تقدُّم (Progress)، هو فهم خاطئ لآليّة التّطوّر. قد يبدو على سبيل المثال، أنّ الكائنات وحيدة الخلية تُؤدّي في نهاية المطاف إلى ظهور الكائنات مُتعدّدة الخلايا، وقد يبدو ذلك مثالًا لحركة مُوَجَّهة نحو تشكيل ما يُسمّى – أشكال الحياة العليا – . ولكن كما أشار غولد (Gould) وآخرون، إنّ هنالك يدًا يسرى للتّعقيد، تعمل خفية، فتَبَعًا لما هو معروف، إنّ أبسط الكائنات الحيّة تركيبًا إمّا أن تبقى على حالها، وإمّا أن تصبحَ أكثر تعقيدًا. وضمن هذا السّياق، فإنّ التّطوّر يشبه مشية الرّجل المخمور (شكل رقم -1-)، حيث إنّ بعض السّلالات تُحقّق -وبشكل حتميّ- تجديدًا لم يُكتَشف بعد في الشّكل والوظيفة. وعلى نفس المنوال، فإنّ مصطلحاتٍ مثل “التّطوّر العكسيّ Reverse evolution” و”الانحطاط أو التّقهقر Devolution” لا تحمل أيّ معنًى، كذلك فإنّ صفاتٍ وسلاسلَ جينيّةً مُتماثلة قد تعاود الظّهور في لحظاتٍ مختلفة في التّاريخ الحيويّ، ولكنّ هذا يبقى تطوّرًا: التّغيّر عبر الزّمان.

شكل رقم 1: “مشية الرّجل المخمور” كاستعارة توضيحيّة لأنماط التّعقيد المتزايد في التّطوّر. رجل مخمور يغادر الحانة مع انتهاء اللّيلة، وبوجود بابٍ مقفلٍ خلفه، من المرجّح أنه سيترنّح ذات اليمين وذات الشّمال. ولأنّه لا يستطيع التّراجع عبر الباب، فحتمًا سوف يقع في النّهاية عند المزراب على الرّغم من عدم اتّخاذه قرارًا واعيًا للتّحرك في هذا الاتّجاه. كذلك التّغير التّطوّريّ؛ لا يتقدّم نحو هدف معيّن أو وِجهة مُحدّدة.

 

وهنالك نقطة ثانية مُهمّة لنشير إليها، ألَا وهي أنّ مصطلحَيِ التّطوّر والانتقاء الطّبيعيّ (الانتخاب) ليسا متماثليْن أو متكافئيْن. إذ إنّ الانتقاء الطّبيعي هو القوّة الّتي تقود وتُؤثّر على التّغيير التّطوّريّ، ولكن يمكن لآليّاتٍ أخرى أن تكون بنفس القَدْر من الأهمّيّة في إحداث التّغييرات.
إنّ تغيّر الصّفات ضمن أفراد الجماعة الواحدة، ليس نتيجةً لعمليات انتقائيّة دائمًا (أي لم ينتُج من عمليّة الانتقاء الطّبيعيّ). فعلى سبيل المثال، لا ينبغي أن يُعزى ظهور وتراكم الصّفة الضّارة (كمرضٍ وراثيّ مثلًا) بين عددٍ من السّكان إلى الانتقاء المباشر للصّفة المعنيّة. وعلى نحوٍ مُشابه، الأليلات (Alleles) الّتي ليس لها تأثير على الصّفات المعنيّة أثناء عمليّة الانتقاء، قد تخضع لتأثير الطّفرات الّتي لا تُؤثّر على كفاية الكائنات الحاملة لها. ويقول مؤيّدو النّظرية المُحايدة للتّطوّر الجزيئيّ (Molecular evolution) بأنّ العديد أو حتّى معظم الاختلافات الجينيّة بين الأنواع الحيّة (الضّروب-Species) هي محايدة انتقائيًّا. التّالي سيكون لمحة عن تنوع القوى المؤثّرة في التّطوّر، متضمّنة الانتقاء الطّبيعي، والّذي يُؤثّر على التّغيير التّطوّريّ.

التّطوّر الصّغرويّ (الميكرويّ) والتّطور الكبرويّ (الماكرويّ)

يُمكننا أن نُميّز بين فئتيْن عامّتيْن من التّغيّرات التّطوّريّة: التّطوّر الصّغرويّ أو الميكرويّ (التّغيّرات الحاصلة تحت مستوى الأنواع) والتّطوّر الكبرويّ أو الماكرويّ (التّغيّرات الحاصلة فوق مستوى الأنواع).
إنّ علماء بيئة الجماعات، وعلماء الأحياء المهتمّون بالحفاظ على التّنوّع، وعلماء البيئة السّلوكيّين، هم الأكثر اهتمامًا بشكلٍ مباشرٍ بالعمليّات التّطوّريّة الجارية في المستوى الصّغرويّ. إذ يشمل ذلك التّحوّلات في قيم وتكرار صفات مُحدّدة بين أفراد الجماعة، والّتي تُعزى عادة إلى العوامل البيئية، كحركة أو تنقّل الكائنات الحيّة وتغيّر ظروف البيئة المحيطة. كذلك التّفاعل مَعَ الأفراد التّابعة لأنواعٍ أخرى مختلفة (مَثلًا التفاعلات الحاصلة بين المفترس والفريسة، وبين الطّفيليّ والمضيف، والمنافسة)، أو التفاعل مَعَ أفرادٍ من النّوع نفسه (مَثلًا الانتقاء الجنسيّ، والمنافسة). يمكن لهذه العمليّات –لكن ليس بالضرورة– أن تُشكّل أنواعًا جديدةً عبر الزّمان، ولكن عوضًا عن ذلك قد تؤدّي إلى ترجّح وتقلّب تكرار الصّفات ضمن الجماعات الخاضعة لضغوطٍ انتقائيّة (انتخابيّة) متبدّلة باستمرار (Thompson 1998). ولمّا كان بعض العمليّات التّطوّريّة الصّغرويّة قد يحدث على مدى بضعة أجيالٍ متعاقبة فقط، فإنّه غالبًا ما يمكن ملاحظته في الطّبيعة أو في المختبر.
من الأمثلة المناسبة، والّتي لُوحِظت على أرض الواقع عن التّطوّر الصّغرويّ، هو ما وُثِّقَ جيّدًا عن مَيْل الحشرات السّريع إلى تطوير المقاومة ضدّ المبيدات الحشريّة (غاسمان وآخرون، 2009). فعلى سبيل المثال، وخلال فصل الصّيف في جنوب فرنسا، تُستخدم المبيدات الحشريّة للسّيطرة على البعوض من الجنس كولِكس (Culex) في المناطق الممتدّة من ساحل البحر الأبيض المتوسّط، وحتّى (20) كم نحو الدّاخل. بعض جينات البعوض تمنح مقاومة ضدّ المبيدات، ولكنّها نادرةٌ في غياب المبيدات (الشّكل 2). ولُوحِظ أنّ تكرار (تردّد) الجينات المقاوِمة للمبيدات يزداد في فصل الصّيف، حيث يكون رشّ المبيدات شائعًا، ولكنّه لا يزداد في المناطق الّتي لا يُمارَس الرّشّ فيها (لينورماند وآخرون، 1999).


شكل رقم 2: تكرار الأليل (Ace.1) المسؤول عن مقاومةِ المبيدات في فصل الصّيف (في الأعلى) وفصل الشّتاء (في الأسفل) لجماعات البعوض من جنس (Culex) في ساحل فرنسا: رُشَّتِ المبيداتُ بدءًا من خطّ السّاحل، وحتّى (20) كم نحو الدّاخل خلال أشهر الصّيف. التّكرار في المناطق السّاحليّة للأليل (Ace.1) ازداد خلال أشهر الصّيف، بينما تناقص مرّة أخرى في الشّتاء.

وعادةً لا تُلَاحظ التّغيّرات التّطوّريّة الكبرويّة نموذجيًّا بشكلٍ مباشرٍ بسبب الجداول الزّمنيّة الكبيرة الّتي تنطوي عليها بشكلٍ عامّ، ولكنّ أمثلةً عديدةً عن هذه التّغيّرات قد لوحِظَت في المختبر (رايس وهوستيرت 1993). وعوضًا عن ذلك، تميل دراسات التّطوّر الكبرويّ إلى الاعتماد على الاستدلال بواسطة الأدلّة الأحفوريّة (المستحاثّيّة)، وإعادة تشكيل النّماذج الفيلوجينيّة (Phelogenetic) التّطوّريّة، واستقراء الأنماط التّطوّريّة الصّغرويّة. في الكثير من الأحيان، يكون محور الدّراسات التّطوّريّة المتعلّقة بالتّطوّر الكبرويّ ما يُدعى بـ»الانتواع« (Speciation): إذ يُشير إلى العمليّة الّتي تصبح من خلالها الأنواع الّتي حدث تزواجٌ وتهجين بين أفرادها من قبل، غير قادرة (أو غير راغبة) على التّزاوج فيما بينها، وإنجاب نسل غير عقيم أو خصب. ولِنكون أوضح في كلامنا، نقول: إنّ الانتواع يُمثّل العمليّة التّطوّريّة الّتي تقود الجماعات البيولوجيّة إلى التّطوّر لتصبح أنواعًا (ضروبًا) جديدة ومتميّزة.
قد يهتمّ علماء البيئة بالتّطوّر الكبرويّ كوسيلةٍ للاستدلال على إجاباتٍ عن الأسئلة الّتي تواجههم حاليًّا. فعلى سبيل المثال، إنّ العلماء المهتمّين بوضع نماذجَ تُوضّح آثار التّغيّر المناخيّ في الوقت الحاليّ، يمكنهم أن أن يربطوا بين البيانات المناخيّة لفترات ما قبل التّاريخ، والأنماط المُستمدّة من المستحاثّات للانتواع والانقراض، ليفهموا كيف تمكّنت الأنواع النّباتية والحيوانيّة المعاصرة من النّجاح والاستمرار، وكيف ستستمرّ أو ستختفي في المستقبل. مَثلًا، تقوم العديد من اللّافقاريّات البحريّة (كالشِّعاب المرجانيّة والبزّاقات والمحار) ببناء قواقعها باستخدام كربونات الكالسيوم الّتي تجمعها من مياه المحيط. وبتراكم ثاني أكسيد الكربون المُنتَج من قِبَل البشر في الغِلاف الجوّيّ، فإنّ قسمًا كبيرًا منه يذوبُ ويتحلّلُ في المحيط، ويُطلِق أيونات الهيدروجين الحرّة خلال عمليّة التّحلّل هذه، وتاليًا، تقلّ درجة حموضة المحيط. ومن بين الأمور الأخرى، يؤدّي تحمّض مياه المحيطات إلى التّقليل من كمّيّة الكربونات المتاحة للّافقاريّات البحريّة الّتي تعتمد عليها في بناء قواقعها الكلسية، ممّا يجعل عمليّة بناء القواقع والحفاظ عليها أمرًا صعبًا بالنّسبة لهذه الكائنات.
ومن خلال إدماج بيانات درجة حموضة (pH) مياه المحيطات والعائدة لملايين السّنين، مَعَ السّجلات المستحاثّيّة للمنخربات (لافقاريات بحريّة تقوم بصنع القواقع)، تَظهر لنا التّأثيرت الّتي خلّفها ازدياد حامضيّة المحيطات على التّنويع الحيويّ وانقراض أنواع اللّافقاريات البحريّة في السّابق. ويمكن حاليًّا عن طريق هذه البيانات، تخطيط أو نمذجة الأنماط الحاليّة لتحمّض المحيطات والبدء بالتّنبُّؤ بآثاره على الحيوانات البحريّة في الوقت الحاضر ومستقبلًا.

في الختام : يصف التّطوّر التّغيّرات الحاصلة في الصّفات الّتي تُوَرَّث عند الكائنات الحيّة عبر الأجيال. إنّ التّغيّر التّطوّريّ ليس موجّهًا نحو هدفٍ معيّنٍ ومُحدّد، كما إنّه لا يعتمد على الانتقاء الطّبيعي لِوَحده ليرسم مساره. إنّ علم البيئة -كما هي الحال في أيّ تخصّص بيولوجيّ- متأصّل في المفاهيم التّطوّريّة، ويُحقّق أفضل فهمٍ ضمن شروطها.


References and Recommended Reading
Dobzhansky, T. Biology, Molecular and Organic. American Zoologist 4, 443–452 (1964).

Hewitt, G. The genetic legacy of the Quaternary ice ages. Nature 405, 907–913 (2000).

Gassmann A .J. et al. Evolutionary analysis of herbivorous insects in natural and agricultural environments. Pest Management Science 65, 1174–81 (2009).

Gould, S. J. Wonderful Life: The Burgess Shale and the Nature of History. New York, NY: W. W. Norton and Company, 1989.

Gould, S. J. Full House: The Spread of Excellence from Plato to Darwin. New York, NY: Harmony Books, 1996.

Lenormand, T. et al. Tracking the evolution of insecticide resistance in the mosquito Culez pipiens. Nature 400, 861–864 (1999).

Orr, J. C. et al. Anthropogenic ocean acidification over the twenty-first century and its impact on calcifying organisms. Nature 437, 681–686 (2005).

Rice, W. R. & Hostert, E. E. Laboratory experiments on speciation: what have we learned in 40 years? Evolution 47, 1637–1653 (1993).

Thompson, J. N. Rapid evolution as an ecological process. Trends in Ecology and Evolution 13, 329–332 (1998).

Zachos, J. C. et al. Rapid acidification of the ocean during the Paleocene-Eocene thermal maximum. Science 308, 1611–1615 (2005).


ترجمة: علي حسن بيشاني. – تدقيق: مهنَّد بهاء. – تدقيق ومراجعة علميّة ولغوية نهائية: أحمد زياد

2 Comments

Leave a Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *