الطفرات و التطوّر : الطّفرات هي المواد الخام للتطوّر

الطّفرات هي الموادّ الخام للتّطوّر

الطّفرة هي تغيُّر في تسلسل الحمض النّوويّ للكائن الحيّ، وقد تحدث نتيجة التّعرّض لمصادر الطاقة العالية، كالإشعاع والموادّ الكيماويّة في البيئة، كما يمكن أن تظهر تلقائيًّا أثناء عمليّة تضاعف أو تكرار (Replication) الحمض النّوويّ.

تُقسم الطّفرات عمومًا إلى نوعيْن: الطّفرات النّقطيّة (Point mutations)، وطفرات انحراف الكروموسومات (chromosomal aberrations). ففي الطّفرات النّقطيّة، يُغيَّر زوج قاعدة واحدة. فالجينوم البشريّ -على سبيل المثال- يحتوي على أكثر من (3.1) مليار قاعدة من الحمض النّوويّ، ويجب أن تُنسَخ كلّ قاعدة منها بشكلٍ مثاليّ كي تنقسم الخلية. لكنّ الأخطاء -على الرّغم من ندرة حدوثها- قد تقع أحيانًا.

يُغيَّر زوجٌ واحدٌ من كلّ (10,000,000,000) زوج قاعدة. والنّوع الأكثر انتشارًا من الأخطاء هو استبدال نقطة، أمّا الأقلّ شيوعًا فهو الفشل في نسخ واحدة من القواعد (طفرات الحذف-Deletion)، أو صنع نسختيْن لقاعدة واحدة (طفرات الازدواج-Point duplication)، أو إضافة قاعدة جديدة أو حتّى عدّة قواعد (طفرة الإدراج-Insertion).
أمّا انحراف الكروموسومات (Chromosomal aberrations)، فهي طفرات يمكن أن تحصل على نطاق أوسع خلال الانقسام الاختزاليّ في ارتباط غير متكافئ (Unequal crossing over)، أو الانزلاق خلال إعادة تركيب الحمض النّوويّ، أو بسبب نشاط الوَحَدَات المنسوخة. ويمكن للجينات أو حتّى الكروموسومات كلّها أن تُستبدل، أو تُكرّر، أو تُحذَف بسبب هذه الأخطاء (الشّكل 1).

الطّفرات في تسلسل الحمض النّوويّ في سبعة أنواع متّصلة من الأسماك الاستوائية (البيانات من قطعة من الحمض النّوويّ هي الإنترون (Intron 6) من التّسلسل الجينيّ (LDH-A) من قِبَل المُؤلّف إبينيفيلين سيرّانِدس (Epinepheline Serranids). ونجد التّسلسل الأصليّ في الأعلى، بينما في الأسفل نجد التسلسل المعدّل بمحاذاةٍ رأسيّةٍ لقواعد الحمض النووي المُتراكِبة، طفرات النقط المستبدلة هي ذات اللّون الأحمر، بينما يُشير المُربّع الأصفر مَعَ الخطوط إلى طفرةِ حذف (12) قاعدة.
الطّفرات في تسلسل الحمض النّوويّ في سبعة أنواع متّصلة من الأسماك الاستوائية (البيانات من قطعة من الحمض النّوويّ هي الإنترون (Intron 6) من التّسلسل الجينيّ (LDH-A) من قِبَل المُؤلّف إبينيفيلين سيرّانِدس (Epinepheline Serranids). ونجد التّسلسل الأصليّ في الأعلى، بينما في الأسفل نجد التسلسل المعدّل بمحاذاةٍ رأسيّةٍ لقواعد الحمض النووي المُتراكِبة، طفرات النقط المستبدلة هي ذات اللّون الأحمر، بينما يُشير المُربّع الأصفر مَعَ الخطوط إلى طفرةِ حذف (12) قاعدة.

يمكن أن يكون للطفرات مجموعة من التّأثيرات، ومن الممكن أيضًا أن تكون مؤذية في كثير من الأحيان، كما يمكن أن تكون قليلة أو عديمة الضّرر، إلاّ أنّه في حالات نادرة يمكن أن يكون التّغيّر في تسلسل الحمض النّوويّ مفيدًا للكائن الحيّ. إنّ الطّفرات الّتي تَحدث في خلايا الجسم لا تُوَرّث أو تُمرَّر إلى الأجيال اللّاحقة، وتُسمّى »طفراتٍ جسديّة« (Somatic mutations)، أمّا الطّفرات الّتي تحدث في المشيج أو الغاميت (Gamete) أو في الخلايا المُنتِجة للمشيج، فهي خاصّة، لأنّها تُؤثّر على الأجيال اللّاحقة وقد لا تُؤثر على البالغين إطلاقًا. ويُسمّى هذا النّوع من التّغيّرات بطفرات الخطّ الإنتاشيّ (Germline mutations)، لأنّها تحدث في خليّة مُستنسخة أو مُستخدمة في عمليّة التّكاثر، أي خليّة جنسيّة أو مُنتِشة (Germ cell)K فتعطي التّغيّر فرصةً للانتشار أكثر مَع الوقت.

إذا كان للطّفرة تأثيرٌ ضارٌّ على النّمط الظّاهريّ (Phenotype) للنّسل، فيُمكن أن يُشار إلى هذه الطّفرة باعتبارها اضطّرابًا وراثيًّا (Genetic disorder). وبالمثل، إذا كان للطّفرة تأثيرٌ إيجابيٌّ على كفاية أو سلامة (Fitness) النّسل، فإنّها تُسمّى تكيُّفًا (Adaptation). وهكذا، فإنّ كلّ الطّفرات الّتي تُؤثّر على كفاية الأجيال القادمة، هي من عوامل التّطوّر.

تُعتبر الطّفرات أمرًا ضروريًّا من أجل التّطوّر، فكلّ سمة وراثيّة يحتويها الكائن الحيّ كانت في الأساس نتيجةَ طفرةٍ. فالبديل الجينيّ الجديد، أو ما يُعرَف بالأليل (Allele) ينتشر عن طريقِ التّكاثر (Reproduction) والتّكاثر التّفاضليّ (Differential reproduction)، إذ يُعتبر هذا البديل جانبًا مُميّزًا من جوانب التّطوّر.
من السّهل أن نفهمَ كيف أنّ الطّفرة الّتي تسمح للكائن الحيّ بالتّغذية، أو النّموّ، أو الإنجاب بفاعلية أكبر، يمكن أن تُسبّب أليلًا أكثر انتشارًا مَعَ الوقت. فقريبًا، ستكون مجموعة الكائنات الحية الجديدة مختلفة سيكولوجيًّا وبيئيًّا عن المجموعة الأصليّة الّتي تفتقر إلى التّكيّف الحاصل. حتّى إنّ الطّفرات الضارة قد تُسبّب بعض التّغيّرات تطوّريًّا، وخاصّة في المجموعات الصّغيرة، وذلك عن طريق إزالة الأفراد الّتي تحمل أليلات تكيّفيّة في جيناتٍ أخرى.

تحدث معظم الطّفرات في نقطة واحدة من الجين، وقد تُغيِّر بروتينًا واحدًا، وتاليًا، من الممكن ألاّ تبدوَ مهمّةً. فعلى سبيل المثال، تتحكّم الجينات في هيكليّة وفعالية الإنزيمات الهاضمة لديك ولدى كلّ الفقاريّات في الغُدد اللّعابيّة. للوهلة الأولى، قد تبدو الطّفرات في الإنزيمات اللّعابية ذات إمكانيّات ضئيلة في التّأثير على احتماليّة النّجاة. ولكن، لو أخذنا مثالًا بسيطًا، فإنّ تراكم الطّفرات الطّفيفة في اللّعاب وتكوينه على مرّ الزّمان، هو المسؤول عن سمّ الثّعبان، وتاليًا، عن الكثير من التّطوّرات الحاصلة للثّعابين.
لقد فضَّل الانتقاء الطّبيعيّ في بعض أجداد وأسلاف الأفاعي، الإنزيمات ذات الخصائص الأكثر عدوانيّةً، ولكنّ الطّفرات نفسها كانت عشوائيّةً، فَكوَّنَت سمومًا مختلفةً لدى مجموعاتٍ مختلفة من الثّعابين. في الحقيقة، إنّ سموم الثّعابين عبارة عن مزيجٍ (Cocktail) من البروتينات المختلفة ذات التّأثيرات المتباينة. لذلك، فإنّ لدى الأنواع المتّصلة وراثيًّا مزيجًا مختلفًا من السّموم عن غيرها من فصائل (Families) الثّعابين السّامّة.

فنجد أنّ أسلاف الثّعابين البحريّة، والثّعابين المرجانيّة، وأنواع الكوبرا (فصيلة العرابيد-Elapidae) قد طوَّرَت سُمًّا يُهاجم الجهاز العصبيّ، أمَّا سمّ الأفاعي (فصيلة الأفعويّات-Viperidae، بما فيها الأفعى المجلجلة، وسيّدة الأدغال أو أفعى بوش ماستر «Bushmaster»)، فيؤثّر على جهاز الدّوران (Cardiovascualr system). إذًا، إنّ كلا الفصيلتيْن يندرج تحتهما العديد من الأنواع (الضّروب) المختلفة الّتي ورثت ميزاتٍ طفيفةً في قوّة السّم من أسلافها، ومَعَ تراكم هذه الطّفرات، تتنوّع السّموم والأنواع مَعَ مرور الوقت.

على الرّغم من أنّ تاريخَ العديد من الأنواع قد تأثّر بالتراكم التّدريجيّ للطّفرات النّقطيّة، فإنّ التّطوّر أحيانًا يعمل بشكلٍ أسرعَ بكثير. إنّ أنواعًا مُختلفة من المتعضّيات أو الكائنات الحيّة الّتي لديها سلف مشترك، تفشل في الخضوع للانقسام الاختزاليّ أو المُنصِّف (Meiosis) بشكلٍ صحيحٍ قبل التّكاثر الجنسيّ، ممّا يؤدّي إلى ازدواجٍ كلّ زوج كروموسوم إجمالًا. مثل هذه العمليّة أدّت إلى انتواعٍ فوريّ، كما هي الحال لدى ضفدع الشّجر الرماديّ (Gray treefrog) في أمريكا الشّماليّة (الشكل 2).

 تاريخ ضفدع الشّجر الرّماديّ (Gray treefrog)، وضفدع الشّجر الرّماديّ المبرقش (Hyla versicolor) هو مثال على الطّفرة وتأثيراتها المحتملة، فعند فشل ضفدع الشّجر الرمادي في فرز الكروموسومات (24) خلال الانقسام الاختزاليّ، كانت النّتيجة هي الرّماديّ المبرقش، وهو مطابق تمامًا للضّفدع الرّماديّ في الحجم واللّون والشّكل ولكن لديه (48) كروموسومًا، وطريقته في الدّعوة للتّزاوج، تختلف عن الأصليّ.
تاريخ ضفدع الشّجر الرّماديّ (Gray treefrog)، وضفدع الشّجر الرّماديّ المبرقش (Hyla versicolor) هو مثال على الطّفرة وتأثيراتها المحتملة، فعند فشل ضفدع الشّجر الرمادي في فرز الكروموسومات (24) خلال الانقسام الاختزاليّ، كانت النّتيجة هي الرّماديّ المبرقش، وهو مطابق تمامًا للضّفدع الرّماديّ في الحجم واللّون والشّكل ولكن لديه (48) كروموسومًا، وطريقته في الدّعوة للتّزاوج، تختلف عن الأصليّ.

ونتيجة لمضاعفةِ حجم الجين في النّباتات، فغالبًا ما تُمثّل البذور أو الفواكه الكبيرة بشكل غير طبيعيّ، سمةً من الممكن أن تكونَ مِيزة مهمّة إنْ كنتَ نبتةً مُزهرة! إنّ معظم الحبوب الّتي يأكلها البشر ذات بذور ضخمة مقارنةً بالأعشاب الأخرى، وهذا يرجع غالبًا إلى ازدواج أو تكرار الجينات الّذي حدث عند أسلاف الأرزّ الحديث والقمح، ولأنّ الخطأ وقع في الخطّ الإنتاشيّ، فقد مُرّر أو نُقِل بنجاحٍ إلى الأجيال اللّاحقة. وقد حاكى البشر هذه العمليّة عن طريق إجراء تزاوجٍ بين أكبر الفواكه والبذور في عملية انتقاء صناعيّ، ممّا أدى إلى تكوين العديد من سلالات المحاصيل الزّراعيّة الحديثة.

لقد وصف فكرة التّطور عن طريق الانتقاء الطّبيعيّ أوّلًا تشارلز داروين (Charles Darwin)، وألفريد راسل والاس (Alfred Russell Wallace)، الّذي أرسل أبحاثه في بادئ الأمر إلى داروين ليراها وينشرها. نقول: لقد وصفا فكرة الانتقاء الطّبيعيّ بأنّها تتطلّب نجاة الأفضل، حيث إنّ بعض الأفراد يمتازون بكفايةٍ تطوّريّة أفضل. إذا كانت الكفاية تتأثّر بالاضطّرابات الوراثيّة، أو اللّعاب السّامّ، أو النّسل الكثير، فإنّ التّمايزات القابلة للتّوريث (Heritable variations) لا يُمكن أن تنشأ إلاّ عن طريق الطّفرات. فالتّطوّر ببساطة، غير مُمكن دون تغيير عشوائيّ على مستوى الجينات المُورّثة لموادّه الخام في المتعضّيات.


References and Recommended Reading
Allendorf, F. W. & Luikart, G. Conservation and the Genetics of Populations. Malden, MA: Blackwell Publications, 2007.

Freeland, J. Molecular Ecology. Chichester, UK: John Wiley & Sons, 2005.

King, R. C. et al. A Dictionary of Genetics, 7th ed. Oxford, UK: Oxford University Press 2007.

Nei, M. & Kumar, S. Molecular Evolution and PhylogeneticS. Oxford, UK: Oxford University Press, 2000.


ترجمة: فراس جبور – مراجعة علمية : عصام فضيلي  – تدقيق لغوي : أنس عبود – مراجعة نهائية: أحمد زياد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *