ما هو التطوّر البيولوجي ؟ تعريف لنظريّة التطوّر في علم الأحياء

عند استعمالنا لمصطلح “التطوّر” في حياتنا اليوميّة، فالمعاني التي نستحضرها تكون في العادة متعلّقة بسياقات إجتماعيّة، فكريّة، سياسيّة، أو حتّى تكنولوجيّة. التطوّر في هذه السّياقات قد يكون في إطارٍ فرديّ (كالزّيادة في العلم أو الغنى) أو في إطار مجتمعيّ (كالتقدّم القانوني أو الحضاري). ولكنّ مصطلح “التطوّر” في علم الأحياء يُشير إلى آليّات ومفاهيم محدّدة، بعضها قد لا يتّفق مع فهمنا الحدسيّ للكلمة. في هذه المقالة، سنستعرض بعض التّعريفات التي طرحها العلماء وأهل الإختصاص لشرح ظاهرة التطوّر في سياقها البيولوجي. ومن ثمّ، سنحاول توضيح هذه التّعريفات والإجابة على بعض المفاهيم الخاطئة عن التطوّر بنفس الوقت.

أحد أفضل التّعريفات لمصطلح “التطوّر البيولوجي” وأكثرها وضوحًا هو ما وردَ في كتاب (علم الأحياء التطوّري – Evolutionary Biology) لعالم الأحياء الأمريكي دوغلاس فوتويما (Douglas Futuyma)، حيث قال:

“في أوسع معانيه، التطوّر يعني مجرّد التغيّر، ولذلك المصطلح منتشر بكثرة [ويستخدم في العديد من السّياقات]. المجرّات، اللّغات، والنّظم السّياسيّة كلّها تتطوّر. التطوّر البيولوجي [على الجهة الأخرى، …] هو تغيّرٌ في صفات مجموعات من الكائنات الحيّة والذي يتجاوز عمر الفرد الواحد. التنشّؤ والتغيّر الذي يطرأ على الأفراد لا يُعدّ تطوّرًا، فالكائنات الحيّة لا تتطوّر كأفراد. التغيّرات التي تطرأ على مجموعات [من الكائنات الحيّة] والتي تُعتبر تطوّريّة هي تلك التغيّرات القابلة للتّوريث عن طريق المادّة الجينيّة [أو الوراثيّة] من جيلٍ إلى آخر. التطوّر البيولوجي قد يكون طفيفًا أو ضخمًا، ويشمل كلّ شيء من التغيّرات الطّفيفة في نسب الأليلات* المختلفة في مجموعة [من الكائنات الحيّة] (مثل التّغييرات التي تحدّد نوع الدّم) وحتّى التّغيّرات المتتابعة التي أدت إلى تطوّر الكائنات الحيّة البدائيّة إلى الحلزونات، النّحل، الزّرافات، وحتّى نبات الطّرخشقون.”

~ دوغلاس فوتويما. علم الأحياء التطوّري. (1986).

التّعريف الآخر الذي سنستعرضه في هذه المقالة هو التّعريف الذي تقدّم به الدّكتور سكوت فريمان (Scott Freeman)، عالم الأحياء الأمريكي الشّهير. في كتابه علم الأحياء (Biological Science)، والذي يُعيّن لطلاّب الجامعات في الولايات المتّحدة، عرّف الدّكتور فريمان التطوّر كالتّالي:

“كما هو الحال مع نظريّة الخليّة، نظريّة التطوّر بالإنتخاب الطّبيعي تشمل أنماطًا وآليّات. نظريّة داروين ووالاس تقدّمت بإدّعائين هامّين بما يتعلّق بالأنماط الموجودة في العالم الطّبيعي. [الأوّل هو أنّ] الأنواع الحيّة مرتبطة بسلفٍ مشترك. وهذا يُخالف الرّؤية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، وهي أنّ الأنواع الحيّة تمثّل كينونة مستقلّة خلقت بشكلٍ منفصل. [الثاني هو أنّه] وعلى عكس الرّؤية المتوافق عليها في ذلك الزّمان وهي أنّ الأنواع الحيّة لا تتغيّر عبر الزّمن، داروين ووالاس اقترحا أنّ الأنواع الحيّة من الممكن أن تتغيّر من جيلٍ إلى جيل. داروين أطلق على هذه العمليّة إسم ‘الإنحدار مع التغّير – Descent with Modification’. [وذلك] التطوّر هو تغيّر في صفات مجموعة [من الكائنات الحيّة] عبر الزّمن. والنّظريّة تعني أنّ الأنواع الحيّة ليست كينونات مستقلّة لا تتغيّر، إنّما مرتبطة ببعضها البعض ومن الممكن أن تتغيّر عبر الزّمن.”

~ سكوت فريمان. علم الأحياء. (2011).

هذه التّعريفات الهامّة تشمل عدّة مفاهيم ونقاط يجب على نركّز عليها:

 

1. نظرية التطور ليس لها علاقة بنشأة الحياة أو بنشأة الكون: يظنّ الكثير من نقّاد نظريّة التطوّر من البسطاء أنّ النّظريّة تحاول تفسير نشأة الكون أو نشأة الحياة على كوكب الأرض. هذا المفهوم الشّائع ليس إلاّ سوء فهم حتّى لأبسط تعريفات نظريّة التطوّر البيولوجي. نظريّة التطوّر تحاول تفسير التنوّع البيولوجي الذي نشهده على كوكب الأرض بآليّات خاضعة للإختبار والتّكرار وليس لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بكيفيّة نشأة الكون أو نشأة كوكب الأرض والحياة البدائيّة عليه.

2. التطور يحدث على مستوى المجموعات، وليس على مستوى الأفراد: هذه نقطة هامّة جدًّا وعادةً ما يتجاهلها الكثير من النّقّاد. في الأطر الشّعبيّة. يظنّ كثيرٌ من النّاس أنّ تطوّر الكائنات الحيّة هو عبارة عن تحوّلات شبيهة بما يحصل في أفلام الكارتون والقصص الخياليّة، ولكنّ هذا ليس ما يحصل في الواقع. التغيّرات التي قد تنشأ على الأفراد في أثناء حياتهم لا تُعدّ تطوّرًا في المفهوم العلمي. التطوّر يحدث على مستوى المجموعات، وقد يحتاج إلى عدّة أجيال (أحيانًا مئات الأجيال) ليظهر واضحًا عند مجموعة من الكائنات الحيّة.

3. التطوّر يعني التغيّر وليس من ضرورته التحسّن أو الإضافة: التّعريفات في الأعلى وضّحت أنّ التطوّر هو مجرّد التغيّر – والتغيّر لا يعني ضرورةً التحسّن، الإضافة، الزّيادة في التّعقيد، أو الإكتساب. التطوّر في بعض الأحيان قد يقود مجموعات من الكائنات الحيّة لأن تفقد أعضاءً أو تصغر حجمًا، وفي بعض الأحيان في الإتّجاه المعاكس – وفقًا لمتغيّرات بيئيّة ووراثيّة متعدّدة. هذا يعني أيضًا أنّه ليس هنالك إتجاه معيّن للتطوّر – الصّفات لا تتغيّر دائمًا في إتّجاه معيّن (مثل الزّيادة في التّعقيد، الذّكاء، أو غيرها من المفاهيم الشّائعة).

4. نظريّة التطوّر هي نظريّة شاملة ولا تتحدّث عن تطوّر الإنسان من القردة العليا فقط: في الأطر الشّعبيّة، يظنّ كثيرٌ من النّاس أنّ نظريّة التطوّر الدّاروينيّة ليس لها هدفٌ إلاّ تفسير نشأة الإنسان المعاصر من القردة. مع أنّ هذا جزءٌ لا يتجزّء من التّفسيرات التي تطرحها نظريّة التطوّر على الطّاولة، إلاّ أنّها ليست الوحيدة. تطوّر الإنسان المعاصر ليس إلاّ حلقة واحدة في سلسلة متشابكة على شجرة الحياة الكبرى، والدّراسات التطوّريّة تحاول فهم طبيعة العلاقات البيولوجيّة التي تجمع الكائنات الحيّة جميعًا، وليس الإنسان والقردة فقط. في المفهوم التطوّري، نحن قريبون بيولوجيًّا من كلّ كائن حيّ آخر على وجه الأرض – من النّباتات، الفطريّات، وحتّى الحيوانات. هذا يعني أنّ الإنسان قريبٌ بيولوجيًّا من الزّهور، الأسود، الأحصنة، وأيّ كائن حيّ آخر قد يخطر ببالك. ولكنّ نسب القرابة هذه تختلف بحسب قرب السّلف المشترك الذي انحدرت منه الأنواع المختلفة. على سبيل المثال، السّلف المشترك الذي يجمعنا بقرد الشّامبانزي عاش قبل 6 مليون سنة، بينما السّلف المشترك الذي يجمعنا بالنّباتات عاش قبل أكثر من 600 مليون عام. ولذلك نحن أقرب وراثيًّا على القردة من النّباتات. وهكذا دواليك.

5. التطوّرات العظمى تحتاج إلى فترات زمنيّة طويلة: بما أنّ التغيّرات التطوّريّة لا تطرأ على مستوى الأفراد، إنّما على مستوى المجموعات (بمعنى أنّ القرد لا يلد إنسانًا والإنسان لا يلدُ قردًا، والنّملة لا تبيض فيلاً، والفيل لا يلد حصانًا).. التغيّرات التطوّريّة العظمى تحتاج إلى فترات زمنيّة طويلة. طول هذه الفترة متعلّق بعدّة عوامل بيئيّة وبطول الجيل أيضًا، فالكائنات الحيّة التي تتمتّع بمعدّل جيلٍ قصير ستتطوّر بوتيرة أسرع من الكائنات الحيّة التي تعمّر لمدّة أطول.

6. التغيّرات التي تُعتبر تطوّريّة يجب أن تكون مورّثة: وذلك لأنّ التّغييرات التي تطرأ على جسم الكائن الحيّ في أثناء حياته لن تنتقل إلى الجيل القادم ما لم تنتقل إلى خلاياه الجنسيّة.


Douglas J. Futuyma in Evolutionary Biology, Sinauer Associates 1986
Freeman, Scott, and Healy Hamilton. Biological Science. Upper Saddle River, NJ: Pearson Prentice Hall, 2005. Print


One Comment

Leave a Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *