مغالطة: ألا يعتمد التّطوّر على الطّفرات، وفي نفس الوقت كلّ الطفرات ضارة؟

السؤال: ألا يعتمد التّطوّر على الطّفرات، وفي نفس الوقت كلّ الطفرات ضارة؟
الجواب: لا. معظم الطّفرات تُعتَبر لا مضرّة ولا نافعة.

هذا كان الجواب المختصر، أمّا الجواب الطّويل فهو أنّ الطّفرات يمكن أن تكون محايدة (لا مضرّة ولا نافعة)، ويمكن أن تكون ضارّة بشدة، ويمكن أن تكون نافعة بشدّة، أو (وهذا مهم) يمكن أن تكون ضارّة أو نافعة حَسَبَ بيئة الكائن الحيّ.

يوجد نوعان من الفراشة الإنجليزيّة المفلفلة (peppered moths): فاتحة اللّون، وداكنة اللون. كانتِ الفراشة داكنة اللّون نادرةً جدًّا قبل الثّورة الصناعية. لكن، في خِضمّ أسوأ فترة في الثّورة الصّناعيّة، عندما كان الهواء ملوّثًا بالسّخام (Sooty)، أصبَحتِ الفراشة الدّاكنة شائعة الوجود بشكلٍ كبير. وفي السّنين اللّاحقة، أصبحت الفراشة فاتحة اللون أكثر شيوعًا بسبب الجهود المبذولة في تحسين جودة الهواء. وقدّمت ورقة «كيتلويل-Kettlewell» المشهورة هذا التّفسير للظّاهرة: إنّ الطّيور تأكل الفراشات الّتي يمكنها رؤيتها بشكل جيّد.

كانت الأشجار في إنجلترا قبل الثّورة الصّناعية مغطّاةً بأشنات (lichens) فاتحة اللون، فكان صعبًا على الطّيور رؤية الفراشات الفاتحة اللّون الماكثة فوقها. وبالمقابل، كانت الفراشات داكنة اللّون أسهل للرّؤية والاصطياد. لكن أثناء الثّورة الصّناعيّة، امتلأتْ جذوع الأشجار بالسّخام المنتشر في الهواء، الذي حجب رؤية الفراشات الدّاكنة اللّون عن أنظار الطيور، وجعل الفراشات الفاتحة اللّون أسهل للرّؤية. وكنتيجة لذلك، أصبحتِ الفراشات داكنة اللّون أكثر شيوعًا من الفاتحة.

وعلى الرّغم من انتقادات الخلقيّين، فإنّ هذا التّفسير قد نجح في اختبار الزّمن. قبل الثّورة الصّناعيّة، كانتِ الطّفرة الّتي حوّلت الفراشة للّون الدّاكن غير مُفضّلة (مضرّة)، وأمّا في أيّام الثّورة، كانت هي المفضّلة (المفيدة).

سيساعدك فهم ماهيّة الطّفرات في فهم سبب كون معظم الطّفرات غير ضارّة ولا مفيدة. إنّ الطّفرة تغيير في المادّة الجينيّة الّتي تتحكّم بالوراثة، وتوجد هذه المادّة في الكروموسومات. لدى النّباتات والحيوانات نسختان من كلّ كروموسوم، في حين إنّ البكتيريا لديها نسخة واحدة. يُطلق على الكائنات الحيّة الّتي لديها نسختان من الكروموسومات اسم الكائنات «مزدوِجة الكروموسوم» (Diploids)، والكائنات التي تملك نسخة واحدة من الكروموسومات اسم «أحاديّة الكروموسوم» (Haploids).

تحتوي الكروموسومات على الحمض النّوويّ الّذي يتكوّن من الجينات، والجينات تتكوّن من سلسلة من النيوكليوتيدات (Nucleotides). يُطلَق على الموقع الّذي يوجد فيه الجين اسم الموقع الكروموسوميّ (Locus)، أمّا موقع النيوكليوتيد في الجين اسمه (Site)، وحذار من الخلط بينهما. يمكن أن يختلف تسلسل الحمض النّوويّ قليلًا في موقع كروموسوميّ معيّن باختلاف الكائن الحيّ. ويُطلق على هذه الجينات المختلفة اسم «الأليلات المختلفة» (Different alleles) وهو المصطلح المعتمد، ولا يطلق عليها اسم «الجينات المختلفة».

إنْ نظرنا إلى مجموعة سكّانيّة معيّنة من الحيوانات أو النّباتات سنلاحظ أنّ هناك عدّة أليلات على (10-20%) من الجينات. بمعنًى آخر، إنْ نظرنا إلى موقع كروموسوميّ معيّن لكلّ أعضاء مجموعة سكّانيّة معيّنة، سنجد أنّ هناك أكثر من اختلاف واحدٍ في التّسلسل لهذا الموقع (Locus) أثناء 10-20% من المرّات.
لفراشتنا المفلفلة جينٌ يتحكّم في ما إذا كانت الفراشة داكنة أو فاتحة اللّون. ولمّا كانت الفراشة مزدوِجة الكروموسوم، فإنّ كلّ واحدة منها تملك نسختين من الجين. وإنْ كانت نسختا الجين مُتماثِلتيِ الأليل، تكون الفراشة نقيّة (Homozygous) الجين، أمّا إن كانت نسختا الجين غير متماثلتيِ الأليل، تكون الفراشة خليطة (Heterozygous) الجين، وبالتّالي، سيختلف لونها تبعًا لذلك. إن كان الأليلان متماثلين، فالفراشة ستكون إمّا فاتحة وإمّا داكنة، اعتمادًا على أيّ أليل تحتويه. يقول النّاس أحيانًا: «ما هو الجين الّذي تملكه؟»، لكنّ هذا السّؤال مربك، إذ إنّه يخلط بين الأليلات والجينات. إن كانت للفراشة ألائل مختلفة (أي خليطة Heterozygous)، فسيكون لونها معتمدًا على الأليل السّائد. وفي حال الفراشة المفلفلة، فإنّ الأليل السّائد هو أليل اللّون الدّاكن، وهذا يعني أنّ الفراشة المختلفة الألائل (أو الخليطة) ستكون ذات لون داكن وليس فاتحًا.

الآن، هيّا بنا نتكلّم على الكيفيّة الّتي يتغيّر بها الجين، أي بمعنى كيف يتغير أليل إلى أليل آخر. من الممكن أن يحصل ذلك بعدّة طرق، فيمكننا أن نحصل على طفرة نقطيّة: حيث يُستبدل بنيوكليوتيد واحدٌ آخر، وربّما يُستبدل بقطاع كامل قطاعٌ آخر، أو من الممكن أن يُحذف قطاع كامل، أو يُدرج قطاع كامل. أو يتضاعف الجين بأكمله.

ما هي تبعات حصول إحدى هذه الأمور؟ أغلب الأحيان لا يكون هناك تبعات ملموسة، أو تكون التّبعات قاتلة. تُشَفَّر الخارطة الجينيّة في البروتينات باستخدام الشّيفرة الجينيّة (أو الكودون-Codon). يحتوي الكودون على نيوكليوتيدات زائدة، بمعنى أنّه من الممكن أن تُنتِج عدّة مجموعات من النّيوكليوتيدات نفس الحمض الأمينيّ. بسبب الزّيادة هذه لا تُؤثّر الطّفرة النّقطيّة على البروتين الّذي سيَنتُج: وفي هذه الحال تُعرف هذه الطّفرات باسم الطّفرات الصامتة (Silent Mutation). إن استُبدِلت السّلسلة بالقصّ أو الإبدال، فستكون النّتائج في الغالب قاتلة، لأنّ تسلسل الكودون سيُفقَد. لكنّ هذا ليس صحيحًا دائمًا، لأنّ هناك عمليّات يمكنها أن تحذف وتضيف أجزاء من الحمض النّوويّ في الجين بطريقة لا تُفسِد تسلسل الكودون.

لنفترض أنّ لدينا إحدى هذه الطفرات، لكنّها ليست قاتلة ولا صامتة. ماذا يحدث إن كانت النتيجة اختلافًا بسيطًا في البروتين؟ في معظم الحالات سيعمل البروتين الجديد كما يعمل القديم – سيُحفّز نفس التّفاعلات. وأحيانًا تتغيّر قدراته الوظيفية، لكنّه سيُحفّز في هذه الحال تفاعلاتٍ مختلفة. عندما يحصل هذا يمكن أن يكون هناك بروتين آخر يتولّى مهامه: أي إنّنا حصلنا في هذه الحال على قدرة جديدة. إن لم يكُن هناك بروتين آخر، فسنكون قد خسرنا القدرة الأصليّة وحصلنا على واحدة جديدة. عملية مضاعفة الجينات مهمّة لأنّها طريقة للحصول على جينات جديدة. عندما يتضاعف الجين إلى نسخة أخرى يمكن أن يحدث فيه تغيير، بينما يبقى الجين الأصليّ كما هو.

تتفاوت الجينات بمقدار قدرتها على التّغيُّر دون إحداث ضررٍ للكائن الحيّ. بعض الجينات، مثل تلك التي تُشفِّر عمليّات الأيض الأساسيّة ومُكوِّنات التّضاعف، وآلية التّرجمة، والنّسخ (Transcription)، من الصّعب أن تتغيّر دون إحداث ضررٍ. يمكننا ملاحظة تباين بسيط بينها من كائن حيّ إلى آخر. يُطلق على هذه الجينات لقب الجينات المُحافِظة (Conserved Mutations).

ربما يدور هذا السؤال في خاطرك الآن: «ما المُحصّلة النّهائيّة؟». بعض الطّفرات قاتل أو سيّئ جدًّا. هذه الطّفرات تُستبعد بشكلٍ مباشر. بعضها صامت ولا يُحتَسب. وأحيانًا تكون الطّفرة مفيدة، لكنّه أمر نادر الحدوث. تقريبًا كلّ الطفرات غير الصّامتة وغير المُقصَاة فورًا هي ليست مفيدة كلّيًّا ولا مؤذية. تُنتِج الطّفرة بروتينًا مختلفًا قليلًا، وتعمل الخليّة والكائن الحيّ بشكل مختلف قليلًا بناءً عليها. إنّ كوْن الطّفرة سيّئة أو مفيدة يعتمد على البيئة، ويمكن أن يكون كلا الأمرين.

إنْ فكّرت بالأمر، سيكون استنتاجك أنّ الحياة يجب أن تعمل بهذه الطريقة – تحدث الطّفرات دائمًا. يملك الشخص العاديّ نحو «50-100» طفرة، ثلاث منها مهمّة، أي بمعنى أنّها تُغيِّر بروتينًا. لو كانت كلّ الطّفرات ضارّة فستكون الحياة قد انقرضت قبل حلول هذا العصر. رغم أنّ معظم الطّفرات ليست مفيدة ولا ضارّة، فيمكنها أن تكون مفيدة أو ضارّة في بيئات معينة. البيئات دائمًا تتغيّر، وكلّ عضو في جماعة سكانيّة يعيش في بيئة تختلف بقدر بسيط عن بيئة الأعضاء الآخرين. بعض الكائنات تعيش، وبعضها يموت، وبعضها يتكاثر، وبعضها لا يفعل. تنتقل ألائل الكائنات الّتي تتكاثر إلى الذّريّة. أيّ اختلاف في الكائن الحيّ تُفضّله البيئة سيزدهر وينتشر.

من المهمّ إدراك أنّ الطّفرات لا تقع كاستجابةٍ للبيئة. إنّها ببساطة فقط تحصل. كثيرًا ما تحصل طفرات في جماعات سكّانية وتختفي من الجماعة لاحقًا، لأنّ الكائن الحيّ صاحب الطّفرة لم يتكاثر أو لم تنتقل الطفرة لذرّيّته، ومن الممكن أن يحصل هذا حتّى لو كانت الطّفرة مفيدة. أحيانًا تترسّخ طفرة في جماعة سكّانية بالصّدفة، رغم أنّها غير مفيدة؛ وهذا معروف باسم الانجراف الجيني (Genetic drift). ومن المهمّ أن ندرك أيضًا أنّ الطّفرات لا تحصل مرّة واحدة فقط. هي تحصل بشكل نادر لكنّها تستمرّ بالحصول في التّجمّع السّكّاني. ونتيجة لذلك، تحصل الطّفرة على أكثر من فرصة لتنتشر في المجموعة السّكّانيّة.


ترجمة: شريف دويكات – تدقيق علمي ولغوي: أحمد زياد


References

Adler, H. I. and A. Hadigree. 1964. “Analysis of a gene controlling cell division and sensitivity to radiation in Escherichia coli.” Journal of Bacteriology 87: 720-726.

Begg, K. J. and W. D. Donachie. 1985. “Cell shape and division in Escherichia coli: Experiments with shape and division mutants.” Journal of Bacteriology. 163: 615-622. [PubMed]

Bennett, W. N. and M. E. Boraas. 1988. “Isolation of a fast-growing strain of the rotifer Brachionus calyciflorus Pallas using turbidostat culture.” Aquaculture. 73: 27-36.

Bennett, W. N. and M. E. Boraas. 1989. “A demographic profile of the fastest growing metazoan: a strain of Brachionus calyciflorus (Rotifera).” Oikos. 55: 365-369.

Boraas, M. E. 1983a. “Population dynamics of food-limited rotifers in two-stage chemostat culture.” Limnology and Oceanography. 28: 546-563.

Boraas, M. E. 1983b. “Predator-mediated algal evolution in chemostat culture.” EOS. 64(52): 1102.

Boraas, M. E. and W. N. Bennett. 1988. “Steady-state rotifer growth in a two-stage, computer-controlled turbidostat.” Journal of Plankton Research. 10: 1023-1038.

Boraas, M. E., D. B. Seale and J. E. Boxhorn. 1998. “Phagotrophy by a flagellate selects for colonial prey: A possible origin for multicellularity.” Evolutionary Ecology. 12: 153-164.

Chao, L, B. R. Levin and F. M. Stewart. 1977. “A complex community in a simple habitat: and experimental study with bacteria and phage.” Ecology. 58: 369-378.

Curry, J. and J. Greenberg. 1962. “Filament formation in radioresistant mutants of Escherichia coli S after treatment with ultraviolet light and radiomimetic agents.” Journal of Bacteriology. 83: 38-42.

Deering, R. A. 1958. “Studies on division inhibition and filament formation by ultraviolet light.” Journal of Bacteriology. 76: 123-130.

JW Drake et al, “Rates of Spontaneous Mutation”,Genetics 148:1667-1686, April 1998 http://www.genetics.org/cgi/content/full/148/4/1667

A Eyre-Walker, P.D. Keightley, “High genomic deleterious mutation rates in hominids”, Nature Vol 397, 28 January 1999, pp. 344-347 [PubMed]

Finnegan, DJ (1992), The Genome of Drosophila melanogaster (Lindsley, DL and Zimm, GG, eds), pp. 1096-1107, Academic Press.

Franceschini G, Vecchio G, Gianfranceschi G, Magani D, Sirtori CR, “Apolipoprotein AIMilano. Accelerated binding and dissociation from lipids of a human apolipoprotein variant,” J Biol Chem 1985 Dec 25;260(30):16321-5. http://www.jbc.org/cgi/reprint/260/30/16321.pdf

Gillott, M. A., D. Holen, J. Eckman, M. Harry and M. Boraas. 1993. “Predation-induced E. coli filaments: are they multicellular?” In: G. W. Bailey and C. L. Rieder (eds.) Proceedings of the 51st Annual Meeting of the Microscopy Society of America. San Francisco Press, San Francisco. p. 420.

Herbert, D., R. Ellsworth and R. C. Telling. 1956. “The continuous culture of bacteria: a theoretical and experimental study.” Journal of Canadian Microbiology. 14: 601-622.

Hoffman, H. and M. Frank. 1963. “Temperature limits, genealogical origin, developmental course, and ultimate fate of heat-induced filaments in Escherichia coli microculture.” Journal of Bacteriology. 85: 1221-1233.

Kubitschek, H. E. 1970. “Introduction to research with continuous cultures.” Prentice-Hall, Englewood Cliffs, NJ.

Kubitschek, H. E. 1974. “Operation of selection pressure on microbial populations.” Symposium Society for General Microbiology. 24: 105-130.

Lenski, R. E. 1987. “Dynamics of interactions between bacteria and virulent bacteriophage.” Advances in Microbial Ecology. 10:1-44.

Margaglione M et al, “PAI-1 plasma levels in a general population without clinical evidence of atherosclerosis: relation to environmental and genetic determinants.”, Arterioscler Thromb Vasc Biol 1998 Apr;18(4):562-567 http://atvb.ahajournals.org/cgi/content/full/18/4/562

Nakajima, T. and Y. Kurihara. 1994. “Evolutionary changes of ecological traits of bacterial populations through predator-mediated competition.” 1. Experimental analysis. Oikos. 71: 24-34.

Negoro et al, 1994. “The nylon oligomer biodegradation system of Flavobacterium and Pseudomonas.” Biodegradation 5:185-194 [PubMed]

Novick, A. and L. Szilard. 1956. “Experiments with the chemostat on spontaneous mutations of bacteria.” Proceedings of the National Academy of Sciences U. S. A. 36: 708-719.

Pernthaler, J., T. Posch, K. Simek, J. Vrba, R. Amann and R. Psenner. 1997. “Contrasting bacterial strategies to coexist with a flagellate predator in an experimental microbial assemblage.” Applied and Environmental Microbiology. 63: 596-601.

Pirt, S. J. 1975. “Principles of microbe and cell cultivation.” John Wiley & Sons, New York.

Prijambada et al, 1995. Appl. Environ Microbiol. 61:2020 http://aem.asm.org/cgi/reprint/61/5/2020.pdf

Shikano, S, L. S. Luckinbill and Y. Kurihara. 1990. “Changes of traits in a bacterial population associated with protozoal predation.” Microbial Ecology. 20: 75-84.

Stephens et al, Am J Hum Genet 1998 Jun;62(6):1507-15 http://www.journals.uchicago.edu/AJHG/journal/issues/v62n6/970785/970785.html

van den Ende, P. 1973. “Predator-prey interactions in continuous culture.” Science. 181: 562-564.

Varon, M. 1979. “Selection of predation-resistant bacteria in continuous culture.” Nature. 277: 386-388.

Jeffrey Yoder et al “Cytosine methylation and the ecology of intragenomic parasites”, Trends in Genetics, Aug 1997, vol 13, no. 8 [PubMed]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *