تطور الإنسان أمر معقد وهذا أقل ما يقال، فهو معقد بسبب الحب الذي يجعلنا نرغب في إبقاء الناس على قيد الحياة، وبسبب العلم والتكنولوجيا اللذين يمنحاننا القوة للقيام بذلك، وأحيانًا بسبب السياسة، وكذلك بسبب بيئتنا التي تُعَد مستقرةً نسبيًا، ما يعني أننا لم نحتج إلى كثير من التعديلات الكبيرة لآلاف السنين.
لكن ماذا سيحدث إذا تغير كل هذا؟ ما الذي سيحدث لأجيال البشر التي غادرت الأرض بحثًا عن حياة جديدة في الفضاء الشاسع العجيب؟
تختلف البيئة الخارجية كثيرًا عن كوكبنا المستقر الذي تطورنا فيه لملايين السنين، ومن الممكن تصور أن يصبح جنسنا شيئًا مختلفًا تمامًا.
عظام خيالية وانتخاب طبيعي
لعقود، كان هذا التحول المفترض للبشرية أرضًا خصبة للتكهنات الخيالية. ففي السلسلة الشهيرة لجيمس كوريل (التوسع) ورواية روبيرت هاينلاين (القمر سيدة قاسية) نرى أنه بعيدًا عن قيود الجاذبية ينمو للبشر عظام طويلة وهشة بخلاف الطبيعي، وفي رواية بيكي شامبرز (أشياء لتُدرس حال حالفنا الحظ) نرى العكس، إذ يزداد سُمك العظام على الكواكب ذات الكتلة الكبيرة لدعم كتلة جسم أعلى.
ونرى زيادةً كبيرة في معدل عمر الإنسان، إذ نتخيل أن التقنيات ستطيل من أعمارنا، وتُعَد سلسلة روايات إيان بانكس (الثقافة) مثالًا ذكيًا على ذلك، إذ يطور البشر فيها القدرة على العيش لقرون ليصبحوا مستكشفي الكون، وفي رواية بروس ستيرلينغ (المصفوفة المقسومة) عدل البشر أنفسهم جينيًا وأصبحوا نوعًا مختلفًا تمامًا.
وفي حين تختلف النتائج والطرق المحددة في الخيال العلمي كثيرًا لكن المبدأ نفسه -التحول البشري بعيدًا عن الأرض- ليس بعيد المنال، قد لا يبدو الأمر كذلك، لكن البشر ما زالوا يتطورون في حين يمضون في حياتهم اليومية.
ألف عالم التطور البيولوجي سكوت سولومون من جامعة رايس كتابًا عن التطور البشري المستمر، وقضى الكثير من الوقت يفكر في كيفية تطورنا في المستقبل، ويرى أن الهجرة بعيدًا عن الأرض ستغيرنا. صرح قائلًا: «كي يحدث التغير التطوري نحتاج إلى التنوع الجيني والانتخاب الطبيعي، فعندما يتوفران لسكان يواجهون تغيرًا بيئيًا كبيرًا، قد يحدث التطور بسرعة. ستتوفر كل قطع الأحجية إذا انتقلنا مثلًا إلى المريخ».
الفضاء سيؤذيك
ستشكل الضغوط البيئية جزءًا كبيرًا في انتقالنا من نوع مرتبط بالأرض إلى نوع آخر يرتاد الفضاء، وهذا مؤكد الآن، فرحلة صغيرة إلى الفضاء تغير البشر جسديًا، وقد يستغرق رواد الفضاء سنوات لاستعادة كثافة العظام المفقودة في الجاذبية الصغرى في رحلة استغرقت عدة أشهر إلى الفضاء، حتى أن بعض التغيرات تحدث أسرع.
قالت العالمة والطبيبة الممارسة كيرا باكول من جامعة أوكلاند في نيوزيلندا، وقد أمضت عدة سنوات تعمل في طب الفضاء بمركز جونسون للفضاء التابع لناسا: «تحدث بعض التغيرات ضمن جدول زمني سريع للغاية».
من أمثلة ذلك تغير منعكسات مستقبلات الضغط، وهي المسؤولة عن تنظيم ضغط الدم في الجسم وإبقائه في مستوى ثابت استجابةً للتغيرات الخارجية، وهي ما يقيك من التعرض للإغماء عند الوقوف، وتمنع الدم من التجمع في القدمين بسبب الجاذبية. أما في الجاذبية الصغرى فستضعف هذه المستقبلات لعدم الحاجة إليها.
تحدث تغيرات أيضًا في الجهاز الدهليزي، وهو مجموع الآليات المحكمة التي تساعدنا على الحفاظ على توازننا والتحكم في حركات العين، إلى جانب معالجة هذه الإشارات في الدماغ، تقول باكول: «فجأة تجد نفسك في بيئة إذا أسقطت فيها شيئًا من يدك لن يذهب الى أي مكان، ولذلك فإن جميع توقعاتك لما سيحدث، ومعالجة ما تلتقطه حواسك، وكيفية شعورك بالتحرك عبر الفضاء ستختلف تمامًا دون مبالغة».
وتشمل التغيرات الأخرى التي تحدث بمرور الوقت في الجاذبية الصغرى فقدان كثافة العظام، فبدون الاجهاد المستمر الذي تشكله الجاذبية على عظامك، ستفقد كثافتها أسرع بعشر مرات مما يحدث في هشاشة العظام، إضافةً إلى تغيرات تشريحية في العين، وتغيرات هيكلية صغرى في الدماغ، وتغير ميكروبات الأمعاء.
ومع أن هذه التغيرات الفسيولوجية تعطينا فكرة عن الضغوط البيئية التي قد تقود تطور البشر الذين يرتادون الفضاء، لكنها تؤثر في الأفراد بدرجات متفاوتة، وتنعكس لتعود إلى طبيعتها بعد أن يعود رواد الفضاء إلى الأرض، وإنْ كانت تستغرق عدة سنوات أحيانًا.
بين الطبيعة والتطور
إذن، ما هي السرعة التي نتوقعها لرؤية تكيفات تطورية دائمة لدى الإنسان المجري؟ لفهم المقاييس الزمنية المرتبطة بهذا الموضوع قد تساعدنا الخبرة الأرضية مرة أخرى. يشرح سولومون في كتابه (مستقبل البشر) مثالين حديثين، وهما مقاومة الأمراض والتكيف مع نقص الأكسجين في المناطق المرتفعة.
في المناطق المدارية حيث تنتشر الملاريا بكثرة، يُلاحَظ أيضًا ارتفاع معدل الإصابات بفقر الدم المنجلي، وذلك لأن الخلايا المنجلية -الناتجة من مرض وراثي- تحتوي على مورثة تمنع الإصابة بالملاريا، لذا يحظى حاملو هذا المرض الوراثي بفرصة أكبر في النجاة من الملاريا والتكاثر. وطورت مجموعات مختلفة من البشر الذين يعيشون في الأماكن المرتفعة طرق مختلفة للتكيف مع نقص الأوكسجين.
كلا المثالين حديث نسبيًا، وحدث في غضون عشرات الآلاف من السنين الماضية، وهذا لا يتعدى طرفة عين في عمر التطور.
لكن البيئة ليست وحدها من يحدد مسارنا التطوري، فالثقافة -أي طرق معيشتنا والقرارات التي نتخذها- تلعب دورًا أيضًا، وقد تسرع الأمور كثيرًا.
يقول سولومون: «يمكننا أن نرى الأشياء التي حدثت على مدار عدة مئات من السنين الماضية، مثلًا وجدت بعض الدراسات أن توقيت التكاثر يتطور في المجتمعات البشرية الحديثة، ويتطور بطرق غالبًا ما تكون مفاجئة للبشر».
مثلًا أظهرت سجلات السكان الفرنسيين/ الكنديين في جزيرة كودر -التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر- اتجاهًا مثيرًا للفضول، إذ انخفض متوسط أعمار النساء عند إنجاب أول طفل من 26 الى 22 عامًا على مدار 140 سنة، ويبدو أن سن الإنجاب هذا قابل للتوريث، إذ تلد النساء اللائي ينجبن في سن أصغر عددًا أكبر من الأطفال، يتكاثرون بدورهم في سن أصغر ويهيمنون على غالبية السكان، فيما يُعَد مثالًا للانتخاب الطبيعي.
لكن في أماكن أخرى يرتفع سن الإنجاب، إذ قد تتأخر النساء في الإنجاب لأسباب مختلفة، بعد أن أتيحت في هذه المناطق وسائل تسهل ذلك، وهذا هو أثر الثقافة والتكنولوجيا في التطور.
يقول سولومون: «هذا مثال جيد للانتخاب الطبيعي والثقافي في المجتمع، وقد يؤثران إيجابًا أو سلبًا في نفس الخصائص، وذهب بعض الأشخاص إلى حد القول بأن الثقافة حلت محل الانتقاء الطبيعي، لكنني أرى أن الثقافة لم تحل محل الانتقاء بل غيرته فقط».
ستكون الثقافة والتكنولوجيا والانتخاب الطبيعي أمورًا مهمة للبشر الذين يرتادون الفضاء أيضًا. هل ستوجد جاذبية صناعية هناك أم لا؟ يشير الخيال العلمي إلى أن نقص الجاذبية ستجعل عظام البشر هشة، لكن سولومون يظن خلاف ذلك، ببساطة بسبب القيود التي تضعها الولادة على عظامنا، ولا يقتصر الأمر على صعوبة عملية الولادة، لكن المعادن التي يحتاج إليها الطفل للنمو تؤخذ من عظام الأم أيضًا، ما يؤدي إلى انخفاض كثافة العظم، لذلك قد تملك النساء ذوات الفرص الأعلى في النجاة في الحمل والولادة في الفضاء عظامًا أكثف، ما يسمح لهن بالعيش وإنجاب أطفال ذوي عظام كثيفة، وقد يلعب الانتخاب الطبيعي والتكنولوجيا معًا دورًا في ذلك.
هل ستتوفر حماية من الإشعاع؟ وما مدى قوتها؟ قد يسبب الإشعاع الطفرات والسرطان، وقد يؤدي التعرض له إلى مسارات تطورية غير متوقعة. إن البشر ذوي البشرة الداكنة أكثر مقاومةً لخطرة الإشعاع، وقد يلعب هذا دورًا أيضًا.
سيكون لهذه المؤثرات وسواها تأثيرات متنوعة وواسعة، وأحيانًا قد تؤثر إيجابًا أو سلبًا في نفس السمات لتشكيل الإنسان الأفضل لبيئته الفضائية.
وعمومًا لا يمكننا توقع كيف سيكون شكل أحفادنا الذين يرتادون الفضاء، لأننا لا نعلم أي العوامل سيكون له دور في ذلك.
تأثير المؤسس
حتى مع كل هذه العوامل المجهولة، سيكون للقرارات التي قد نتخذها قبل الانطلاق في تلك الرحلة اللانهائية تأثير أكبر مما نعتقد، إذ يوضح سولومون تأثيرًا آخر قد شهدناه بالفعل وتظهر آثاره على الأرض، وهو تأثير المؤسس، فقال: «سيكون للمؤسسين تأثيرًا كبيرًا ومهمًّا في تركيبة المجتمع البشري في الفضاء على المدى البعيد، إذ يلعب هذا التأثير دورًا على الأرض طوال الوقت، فعندما تنبثق جزيرة جديدة في البحر تشق بعض النباتات والحشرات طريقها هناك، وتشكل سمات هذه الأنواع الخصائص الموجودة في هذه البيئة».
يمكننا أن نرى بالفعل لمحات من الدور الذي سيلعبه هذا التأثير على البشر الذين يرتادون الفضاء. في أوائل هذا العام أعلنت ناسا تلقي طلبات توظيف رواد الفضاء، وتضمنت المتطلبات الحصول على درجة الماجستير، ما يعني أن المتقدمين للوظيفة سيكونون من الأثرياء بما يكفي للوصول إلى تلك الدرجة العلمية، وسيكونون غالبًا من العرق الأبيض، على الأقل في الولايات المتحدة.
لا تملك كل الدول الموارد اللازمة لدعم برنامج الفضاء أو لتدريب رواد الفضاء، وأحيانًا ترتبط القرارات المتعلقة بمن يُسمح له بالذهاب إلى الفضاء بدوافع سياسية. وقد يُختار الأشخاص استنادًا إلى خصائص جسدية، ما سيؤدي إلى تحسين النسل إذا امتد السفر الى الفضاء عدة أجيال.
تقول باكول: «سيكون لما يقررونه في صفات رواد الفضاء المقبولين أثر كبير في كيفية تطورنا».
من وجهة نظر محايدة، تشير باكول إلى فكرة الإعلان عن الفضاء بوصفه حالة اختبار، فمثلًا سيستغرق عمال التنقيب في الفضاء -الذين يمدون الأنفاق في أماكن قليلة الجاذبية ويعودون إلى الأرض بعد كل مهمة- وقتًا لاستعادة كثافة عظامهم أطول من وقت فقدها، ما يعني أنهم لا يملكون وقتًا كافيًا للتعافي الكامل، ما يؤدي إلى الإصابة المبكرة بهشاشة العظام.
تقول باكول: «قد يؤثر ذلك -كما هو الحال الآن في شروط فيلق رواد الفضاء- في اختيار من سيعمل هناك، فعندما تختار فريقًا سيمتد وجوده في الفضاء عدة أجيال، ستختار الأشخاص الأقل عرضةً لفقد كثافة العظام، وسيرتبط ذلك بعوامل عرقية واجتماعية».
يجب أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار بعناية فائقة إن أردنا ألا نحرم أشخاصًا بعينهم السفر إلى الفضاء بسبب العرق أو الجنس.
قد لا نصبح نوعًا فضائيًا بالكامل، ومن المحتمل ألّا نترك النظام الشمسي أبدًا، لكن من غير المحتمل أن نبقى هنا على الأرض إلى الأبد.
بدأت وكالات الفضاء تضع خططًا لإنشاء قاعدة دائمة على القمر بالفعل، وأرسلنا عدة مهام روبوتية إلى المريخ ويجري التخطيط لمهام بشرية، وليست فكرة المستعمرة الدائمة على المريخ مُستبعدة.
هذه البيئات القاسية بما فيها من ضعف الجاذبية والإشعاع الشديد، تختلف تمامًا عن كوكبنا الأم حيث ظللنا نتطور لملايين السنين.
سيكون لهذه الأماكن تأثير حتمي في جسم الإنسان، وكذلك التكنولوجيا المتاحة، وكيفية السفر والقرارات التي نتخذها حول من سيُسمح له بالسفر، لكن هذه الاختلافات يصعب توقعها.
يقول سولومون: «يحظى بعض الأشخاص على الأرض باستجابة للتعايش مع الإشعاع أفضل من غيرهم، ولا يمكنك اكتشاف ذلك بالنظر إليهم فقط، لكنهم قد يعيشون فترةً أطول من البقية، أظن أن الكثير من التغيرات ستحل داخل الجسم، وستحدث بعض التغيرات الخارجية، لكن الأكثر هي التغيرات الداخلية الأدق».
لكن في النهاية قد لا يبدو هؤلاء البشر المستقبليون مختلفين عنا كما نتوقع.
المصدر: sciencealert
اقرأ أيضًا: