يشير سجل الحفريات إلى العصر الكيمريدجي، ويكشف عن تطور الحفريات الأثرية في منطقة الفايجة، شمال غرب الجزائر لأول مرة.
لم يتوقع سكان بلدية الفايجة، الواقعة شمال غرب الجزائر ذات يوم، أن تحتضن منطقتهم موقع اكتشاف علمي في غاية الأهمية لنوع منقرض من الحيوانات البحرية، وتملك سجلًّا غنيًّا من الأحافير يزود العلماء بكَمٍّ ضخم من المعلومات حول الحقب التي عاشت فيها.
وكان فريق دولي من الباحثين قد تمكَّن من اكتشاف حيوانات بحرية رأسية الأرجل، وهي نوع من الرخويات تسمى الأمونيت (Ammonites)، متحجرةً في طبقات جيولوجية تسمى طبقات الفايجة Faïdja Formation، في الشمال الغربي للجزائر.
نجح الباحثون في تحديد عمر جديد لتكوين هذه الطبقات الجيولوجية، وهو الكيمريدجي (Kimmeridgian) بالحقبة الثانية من عصر الجوراسي العلوي، ما قبل (150) إلى (155) مليون سنة.
وجاء في الدراسة التي نُشرت في دورية جورنال أوف أفريكا إن إيرث ساينسjournal of Africa in earth science، أن فريق البحث قسم هذه الحقبة الجيولوجية إلى ثلاث وحدات رسوبية، وذلك من خلال دراسة متنوعة شملت علم المستحاثات والطبقات وعلم الرسوبيات وعلم آثار الحيوانات.
وتشير نتائج البيانات الرسوبية التي وردت في الدراسة إلى تطور البيئة البحرية في تلك المنطقة، حيث كانت عبارة عن حوض رسوبي من حافة الجرف إلى السطح الساحلي السفلي الذي تنشط فيه العواصف البحرية والأمواج بشكل متقطع.
ساعدت الدراسة في التعرُّف على الجغرافيا القديمة للمنطقة، والتي كانت عبارةً عن بحر من متوسط إلى عميق، توجد سواحله في المغرب، كما مكَّنت من إعطاء تأريخ جديد للطبقات التي اكتُشفت فيها هذه الكائنات.
يقول عبد الواحد الكناوي -الباحث المغربي من جامعة كازان الروسية، والمشارك في الدراسة- لـ”للعلم”: “تتجلى أهمية هذه الدراسة في كونها مكَّنت من تفكيك شفرة الكائنات وآثارها المُكتشَفة من أجل فهم الظروف البيئية والمناخية السائدة في شمال غرب الجزائر قبل (155) مليون سنة”.
ويتكون فريق البحث من باحثين من الجزائر والمغرب وفرنسا وألمانيا وروسيا، وقد استغرق إنجاز هذه الدراسة سنتين؛ إذ تطرقت أيضًا إلى تحليل سلوكيات هذه الكائنات، وفق العمق والظروف المناخية التي كانت تعيش فيها.
يقول عبد الكبير حمينة، باحث مستقل بكلية العلوم ظهر المهراز بفاس: “عزَّزت هذه الدراسة الرصيد البحثي بشمال أفريقيا الذى يتعلق بعلم المستحاثات، والذي عرف تطورًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة، بفضل مجموعة من الشراكات بين جامعات ألمانية ومغربية وجزائرية”.
آثار حيوانات متحجرة
ويُطلَق الأمونيت (Ammonites)على مجموعة من الكائنات البحرية تنتمي إلى فرع الرخويات، قسم رأسيات الأرجل، انقرضت مع انقراض الديناصورات فيما يُعرف بالانقراض الكبير الحاصل بين العصر الطباشيري والپاليوجيني من حوالي 65.5 مليون عام، مؤديًا إلى انقراض حوالي 76 % من الأنواع البحرية.
“الدراسة العلمية غنية بالمعطيات، واعتمدت على آثار الحيوانات التي تتركها بعض الحيوانات اللافقارية كالأمونيات” وفق موسى مسرور، باحث مستقل في مختبر الجيولوجية التطبيقية والجيوبيئية بكلية العلوم بجامعة ابن زهر.
يقول “مسرور”: “كل هذا مكَّن فريق البحث من تحديد عمر الطبقات، وذلك بفضل الأمونيت التي أعطت عمر هذه المنطقة المدروسة، كما مكَّنت دراسة آثار هذه الحيوانات من إعادة التمثيل المكاني في تلك الحقبة”.
ومن جانبه، يشدد “الكناوي” لـ”للعلم” على أن: نتائج الدراسة كشفت عن تنوُّع بيولوجي كبير في آثار أحافير اللافقاريات؛ إذ تم تصنيف هذه الآثار إلى أربع مجموعات، تدل كل مجموعة على عمق معين يتيح لكل نوع من أنواع هذه الأحافير ترك آثاره التي تحمل أحيانًا أشكالًا هندسيةً مميزةً ومتنوعة، وتدل على سلوكيات معينة.
ووفق نتائج الدراسة فإن “المجموعة الأولى تتميز بمزيج من آثار الجرافوغليبتيد Graphoglyptids يُنسب إلى سلالات سلسلة النيريدي Nereites، وتدل على أن المنطقة كانت عبارة عن منطقة انتقالية بين الهضبة المنخفضة وحافة الجرف في أعماق المحيط، وتتميز هذه المنطقة بنسب منخفضة من الأكسجين، وبأنها منطقة عواصف متكررة.
أما المجموعة الثانية، فتتميز بوفرة آثار ما بعد الترسيب، وتنتمي إلى سلسلة آثار مفصليات الأرجل النموذجية archetypal Cruziana التي تشير إلى المنطقة الانتقالية من الهضبة المنخفضة في أعماق المحيط مع مراحل قصيرة من انخفاض الطاقة الهيدروديناميكية.
وأما المجموعة الثالثة، فتتزامن مع تغيُّر جذري في أنواع الصخور وظروف الترسيب، إذ توثق هذه المجموعة سلسلة آثار مفصليات الأرجل القريبة من الساحل proximal Cruziana الذي يشير إلى أعلى المنطقة البحرية الانتقالية كبيئة ترسيب.
وتشير المجموعة الرابعة إلى بيئة المنطقة الساحلية السفلى، وتوضح جميع البيانات الرسوبية وآثار الأحافير اللافقارية مجتمعةً أن منطقة الترسب كانت عبارة عن حوض رسوبي منخفض نسبيًّا، عرف انخفاضًا تصاعديًّا لعمق المحيط مع الزمن.
تعرُّف جغرافيا المنطقة
وفق موسى مسرور: “دراسة هذه الآثار مكنت من معرفة أن هذه المنطقة عبارة عن شاطئ لم يكن عميقًا، وكان في بعض الأحيان يتأثر بالعواصف التي تترك أثرها على الشاطئ، مشيرًا إلى أن هذه الدراسة هي الأولى للمنطقة التي تكشف كيف كانت الظروف في هذه الحقبة التاريخية”.
ويوضح عماد بوشمالة، الباحث المشارك في هذا الاكتشاف: “نتكلم هنا عن جيولوجية المنطقة أكثر من جغرافياتها، فمستحاثات الأمونيت تعتبر كائنات بحرية بحتة، ولا يمكنها العَيش في غير البيئات البحرية”.
ويضيف أنه من هذا المنطلق يمكن تمييز التشكيلات الجيولوجية الموجودة فيها على أنها تشكيلات متموضعة في بيئات بحرية متكونة خاصة من طبقات من الصخور الرسوبية الكلسية التي تتيح حفظ هذه المستحاثات، وبتتبُّع المستويات الصخرية الحاملة لهذه الكائنات جانبيًّا على نطاق واسع يمكننا تعرُّف التوسُّع والامتداد الجغرافي لهذا التشكيل في هذه المنطقة.
وتستطيع الأمونيت التأقلم مع عمق المياه بسهولة؛ فهي دائمة الحركة داخلها بفضل مجساتها، وما يمكِّنها من الصعود والنزول هو قوقعتها المملوءة بغاز ثاني أوكسيد الكر بون، وهذا السلوك يأتي استجابةً للعوامل الإيكولوجية السائدة في المياه، من درجه حرارة وملوحة وتوافر للغذاء.
ووفق الباحثين المشاركين في الاكتشاف، فالملحوظ أنها تستطيع تطوير شكل قوقعتها وتغييره نتيجة الظروف السائدة في المياه أو كنوع من التطور البيولوجي، فتكون قوقعتها غالبًا مزينةً بخطوط جميلة كاستجابة إيجابية للعوامل الإيكولوجية والبيئية الجيدة السائدة في المياه، أما إذا كانت هذه الظروف سيئة فإن كائنات الأمونيت لا تكبر، وتبقى كائنات قزمة، إذ يمنع نقص الأوكسجين داخل الماء عمليات تطورها وظهور الزخرفة على قوقعتها.
يحكي “بوشمالة” عن الصعوبات التي واجهها فريق البحث، “وكيف أنهم تعرضوا لمواجهة بعض البدو الرحل الذين منعوهم من العمل في المنطقة، بذريعة أن تلك الأرض ملك خاص وليس من حقهم الولوج اليها، إلا أن تدخُّل المسؤولين الحكوميين في المنطقة حال دون الاعتداء عليهم، ووفر لهم الحماية خلال مدة البحث، ويضيف أن عدم وجود مكان للإيواء زاد من صعوبات البحث، غير أن بعض أهالي المنطقة المضيافين قاموا بإيوائهم.
مشروع دراسات مستقبلية
يفتح هذا البحث -الذي يأتي ضمن مشروع دراسة مستمرة في إطار أطروحة الدكتوراة الخاصة بالباحث عماد بوشمالة- مجالًا واسعًا للمزيد من الدراسات في المستقبل.
يقول “بوشمالة”: “يمكن مقارنة هذا التشكيل (طبقات الفايجة) بما يوافقه في المغرب أو حتى في تونس إذا ما كانت التشكيلات المقارنة لها العمر الجيولوجي نفسه ومتموضعة في بيئة بحرية”.
ويضيف: “قبل تحديث عمر تشكيل الفايجة (Faïdja) كان ثلثا هذا التشكيل مترابطًا ومتوافقًا مع تشكيل (Argile de Saida) المعروف في المجال الجيولوجي التلمساني، الذي بدوره له توسع جغرافي كبير يمتد من الجزائر وصولًا إلى المغرب، وهناك يتغير الاسم فقط من تشكيل (Argile de Saida) إلى تشكيل (Oujda)، ولكن نحن نتكلم عن التشكيل ذاته والعمر ذاته والصخور المميزة نفسها، وتبقى الحالة البيئية السائدة تحتاج إلى دراسة أخرى في المغرب، ثم مقارنتها مع نظيراتها في الجزائر لمعرفة ما إذا كانت قد تغيرت أم لا.
وأوضح: “نحن نتحدث عن مئات الكيلومترات من التوسع الجغرافي للتشكيل، وللحصول على معلومات أدق، نحتاج إلى دراسة هذا التشكيل في عدة مناطق من الجزائر إلى المغرب، وهذا هو المتعارف عليه في مجال المقارنات للتشكيلات الجيولوجية”. ويختتم بوشمالة حديثه لـ”للعلم”: بناءً على المعطيات الجديدة التي كشف عنها هذا البحث، خاصةً تحديث عمر هذا التشكيل الجيولوجي، وجب الأخذ بعين الاعتبار باقي التشكيلات الجيولوجية التي تنتمي إلى المجموعة نفسها، سواءٌ من فوق هذا التشكيل المدروس أو من أسفله، وهو ما يتطلب عدة جولات ميدانية في المستقبل يجري الإعداد لها في مرحلة ما بعد الانتهاء من أطروحة الدكتوراة.
تم نقل المقال Scientific American بالتصرف.
اقرأ أيضًا: كيف انتقلت الحياة من المياه إلى اليابسة؟